في الرواية تفاصيل أكثر وأفكار أخرى تناقشها الكاتبة، غير أن هذا المحور هو بؤرة تركيز الرواية، وهو ما جذبني لقراءتها حتى النهاية.
حين أطبقت صفحات الرواية وشرعت أتفكر في ذلك المعنى الأخّاذ للجمال، تبدّى لي من بين ثنايا الذاكرة موقف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لما غارت أُمّنا السيدة عائشة رضي الله عنها، من السيدة خديجة الطاهرة رضي الله عنها، حتى بلغ بالسيدة عائشة أن قالت: "ما تَذكُر من عجوز حمراء الشَّدْقَين، هلَكَت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها؟"، حينها غضب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما كان يغضب إلا لحق، ورد عليها الرد الذي خلدته صحائف التاريخ في مناقب الزوجة الطاهرة: "لا والله ما أبدلَني الله خيراً منها، قد آمنت بي؛ إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذَّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله -عز وجل- ولدها إذ حرمني أولادَ النساء". وفي رواية: "فغضب حتى قلتُ: والذي بَعَثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير".
لقد كان وفاء الحبيب المصطفى لذكرى السيدة خديجة من القوة بمكان، حتى كانت السيدة عائشة تغار منها وهي مُتَوفاة! ومَن السيدة عائشة؟ هي الحُمَيْراء الشابة الجميلة! إن موقف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لهو درس عملي في حقيقة الجمال.
فلم تذكر كتب السيرة الجمال الشكلي للسيدة خديجة رضي الله عنها، بقدر ما أسهبت في وصف نبلها وطهارة أخلاقها، ولا سجل التاريخ حسنها الباهر، بقدر ما خلد وقفاتها العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما رد الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على قول السيدة عائشة: "عجوزاً.. قد أبدلك الله خيراً منها"، وهي تعني الجمال الشكلي، لم ينْبَرِ لوصف المحاسن الجسدية للسيدة خديجة رضي الله عنها، ولا جمالها الخارجي، بل عدد نبل خلقها ووفاءها وأصالة جوهرِها النادر، وتلك هي نظرة الرجل الحقيقية لجمال زوجته، فبهذا الجمال الخاص للسيدة خديجة استحقت أن تكون خير نساء أهل الجنة، ومن الثلاث الكاملات من النساء، وأن يتنزل جبريل يقرِئها السلام من الله تعالى.
هل يستأذِن الجمالُ القلوبَ؟
وحين نتحدث عن الجمال، لا أفتأ أتذكر مجال الرسم، الذي ارتبط بالجمال منذ أمد بعيد، فحدث مرة أن تأملت لوحة عنوانها "الغراب الأصفر"، فدهشت منها أيما اندهاش، ليس ذلك لأن الغراب أصفر، بل لأن اللوحة لم يكن فيها قطرة من لون أصفر، ناهيك عن شكل غراب، أو أي شكل ذي معنى، يمكن أن تستبينه من بين "لطخات" ملونة، ألقي بها على الورق دون عناية! وشعرت كم أنه من المؤسف أن نرى العبث بالجمال حتى في هذا المجال الساحر، الذي طالما اتصلت بينه وبين الجمال أواصر المحبة.
كم نسمع عن الفن التشكيلي والتجريدي ومسميات عديدة، من المستحدثات على الفن والجمال، ولا تَمُتُّ لا للفن ولا للجمال بأي قرابة ولو بعيدة! فليس التشكيل ولا التجريد ما يجعل الفن فناً، ولا من تلك المصطلحات المستوردة أصل الجمال الذي يحاولون قسره على قلوب الناس. إن الفنان مرهف الحس من حيث إنه حين يرى جمالا تسكن إليه روحه، وتـــأبـى حواسه إلا أن تخلده في لوحاته، فليس يمر عليه مرور الكرام كغيره ممن تستعجلهم عجلة الحياة.
ومن تلك اللوحات التي تأملتها، ورأيتها تَمَس شَغاف القلب بما جمعت من رقة ورصانة وحنان، لوحةُ أم جالسة وفي حجرها طفل رضيع يتطلع إليها. ويبدو أنها كانت جالسة في حديقة تزدان بالورورد البيضاء؛ إذ طارت بَتَلة إحدى تلك الورود لتستقر على رأس الرضيع، فرفعت الأم يدها لتنفضها عنه. وإذ ذاك التقت عيناها بعينيه، فابتسمت العينان وتبعتهما الشفتان، وسكن القلب للقلب كأنما هما حبيبان يتناجيان. فكأن الزمن توقف إجلالاً عند تلك اللحظة، ليخلد لنا دفقاً من معاني الأمومة والرحمة والحنان في تلك النظرة، وتلك اليد الممدودة لتدفع عن الصغير أي أذى، ولو كان بتلة ورد! إنني لا أعرف حتى اللحظة من الرسام، ولا تاريخ رسم اللوحة، ولا حتى "المذهب" أو "المدرسة" المتبعة، كل ما أعرفه أن تلك الصورة قد رسمت بجمالها "المباشر" الجلي الابتسامةَ على وجوه من تطلعوا إليها، وأثارت في قلوبهم طيفاً من المشاعر الدافئة.
إن الميل للجمال فطرة في الإنسان، قد يكبُر بدرجات عند بعض حتى يصل للشغف به، وقد ينعدم في حالات الشذوذ – التي شاعت مع الأسف في العصر الحالي – حتى يستحيل القبح حُسناً، والعبثُ فناً، والبلاهةُ ذوقاً! وتتعدد التعريفات والشروط والمذاهب، ويظل الجمال الحق يعرفه كل منا حين يراه، ويحبس أنفاسه للمنظر الخلاب حين يقع بصره عليه.
إن الفن الحقيقي ليس هو ذاك الذي يتبع قواعد اخترعت حديثاً، فالفن ليس قاعدة بحد ذاته، وإنما هو معنى تهفو إليه النفوس، دون حاجة إلى "مذهب"، يفرض عليها أن "تصنف" هذا على أنه "جميل"، وغير المتبع للمذهب على أنه قبيح.
الجمال وُجد بالفطرة ومعها في نفوس البشر، ومهما تعددت القواعد والتصنيفات، ومهما قام وقعد "كبار النقاد"، سيظل الجميل جميلاً، ويظل "اللامعنى" بلا معنى.
فالفن الحقيقي هو الذي يرسم البسمة على شفاه الجميع، بسطاء كانوا أم نخبة، باحثين عن الجمال كانوا أم مجرد متأملين.
إن الجمال لا يطرق باب القلب قائلاً: "عفواً! أتسمح لي أن أتربع على عرش قلبك؟" بل هو من الذين يدخلون القلوب بلا طرق ولا استئذان. لقد شاهدت لوحات كثيرة لمشاهير ولغيرهم، لكبار الفنانين وصغارهم، ولم أتوقف يوما لأسأل "أتخضع تلك اللوحة لمذهب الفن هذا أم ذاك؟"، ولا لأستفسر عن صاحب اللوحة أو تاريخ حياتـه، ربما يعني ذلك أهل الاختصاص، ولكنه لا يعني متأمل الجمال، لقد كانت الجميلة منهم دوماً جميلة بالإجماع، إجماع القلوب والعقول.
مقالتي هذه ليست دعوة لنبذ الجمال، وإنما دعوة لإنصافه.. أنصفوا الجمال يرحمكم الله!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.