زمن الرعاع

هنا حدث أغرب رد فعل رأيته في حياتي: بدأ حضرة أمين الشرطة في وصلة تأنيب مختلط بالسباب للسيدة المنهارة ذات المظهر الفقير؛ عن النساء المهمِلات اللائي لا يستحققن نعمة الإنجاب، وعن إمكانية أن يحرر ضدها محضراً بالإهمال والتقصير، ثم ختم كلَّ هذا بسؤال ختمه بسبٍّ: وكنتِ راجعة بيها بعد 12 بالليل ليه يا...؟ مسرَّحاها تشحت صح؟!

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/25 الساعة 06:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/25 الساعة 06:44 بتوقيت غرينتش

(1)

يحدث أن تجلس مسترخياً في ترام "الإسكندرية"، قرب منتصف الليل.. نعم، كانت هذه جريمتي، فقدتُ تحفزي وخوفي الدائم لثوانٍ، كانت كافية ليُنزع الموبايل من يدي، من خلال الشباك الذي تركت نافذته مفتوحة، بينما الترام يستعد للانطلاق ويغلق أبوابه.. كانت جريمتي أنني فقدتُ تحفزي الدائم للخطر الذي يلازمني دوماً خارج المنزل، ثوانٍ كانت كافية لكي أفقد هاتفي، فإحساس الأمان لم أمتلكه يوماً، واكتسبت إحساساً جديداً بالانتهاك؛ لا يزال يؤرقني حتى اليوم.

كانت جريمتي أنني توقفتُ لثوانٍ عن الخوف الذي أحيا به كضرورة لا غنى عنها، ونسيت أني بلا ثمن.

(2)

لم أعرف المعنى الفعلي ألفاظ مثل: "الارتياع" و"اللهفة" و"الانكسار"، إلا في تلك الليلة.

بينما كنتُ أتأمل في غرفة كئيبة ذات جدران سوداء على يميني، يقولون إنها كانت تُستخدم كحجز للقسم في السابق، دخلتْ علينا ورائحة فزعها تسبقها؛ امرأة في منتصف الثلاثينيات من عمرها، تضع على جسدها عباءة سوداء باهتة اللون، وتلف رأسها بطرحة مبعثرة، وتنتحب بشكل متقطع بين كلماتها، التي خرجتْ مفككة للغاية في البداية، قبل أن "يزعق" فيها أمين الشرطة طالباً منها أن توضح ما تقول، فبدأتْ تروي أنها فقدت ابنتها بينما كانت تسير بجوارها في أحد الشوارع، غفلت عنها لدقيقة، فلم تجدها بجوارها.

هنا حدث أغرب رد فعل رأيته في حياتي: بدأ حضرة أمين الشرطة في وصلة تأنيب مختلط بالسباب للسيدة المنهارة ذات المظهر الفقير؛ عن النساء المهمِلات اللائي لا يستحققن نعمة الإنجاب، وعن إمكانية أن يحرر ضدها محضراً بالإهمال والتقصير، ثم ختم كلَّ هذا بسؤال ختمه بسبٍّ: وكنتِ راجعة بيها بعد 12 بالليل ليه يا…؟ مسرَّحاها تشحت صح؟!

لتجيبه بصوت مرتعش وهي تمسح دموعها: والله أبداً أنا بمسح سلالم يا باشا، وهي بتبقى معايا في الشغل عشان معنديش حد أسيبها عنده.. والله يا باشا ده أنا بجري عليها هي وأخواتها أنا وأبوهم.. حقك عليَّ يا باشا أنا آسفة، والله ترجعلي بس وأنا هحافظ عليها بعنيا والله يا باشا.

السيدة التي من المُفترض أن تدخل قسم الشرطة لتجدهم جميعاً في خدمتها ليجدوا لها ابنتها المفقودة، انتهى بها الحال تتلقى اللوم والوعيد، وتستأذن الباشا في رعشة أن تدخل الحمام، ليشير لغرفة تقع خلف مكتبه بقرف… وكل هذا لسبب بسيط؛ لأنها فقيرة، لا حماية لها، لا ثمن لها من "الرعاع" في تصنيف "الباشا".

وفي تلك اللحظة، شعرتُ بهوان مضاعف لما ملأني لحظة "شد" الموبايل من يدي.

(3)

بما أننا في مصر نحيا أزهى عصور الأكاذيب، فيمكنك تمييز لحظات الصدق بسهولة.

العميد "محمد سمير" كان صادقاً بحق في غضبته، عندما كتب مقالته القصيرة؛ رداً على الرعاع الذين خاضوا في حياته الشخصية، وقرروا الحكم على زيجاته المتتالية، ونسج خيوط درامية لحياته الشخصية، والخوض فيها بهذا الشكل الذي حدث.

أنا أيضاً لم يعجبني ما حدث، ولم أشترك في هذا الجدل، لكن لو أردت الحكم أخلاقياً على شاب تجاوز الثلاثين، مرتبه لا يتجاوز الـ1500 جنيه، لا وِرث له، ولا أمل في مستقبل يختلف عن حاضره كواحد من الرعاع الذين سبَّهم سيادة العقيد غاضباً، هل يمكنك حقاً أن تلوم هذا الشاب، وهو يصبُّ غضبه على رجل يراه يتزوج للمرة الثالثة، بينما هو محروم حتى من التفكير بجدية في فكرة الزواج؟

كانت لحظة صدق نادرة: "الرعاع".. هكذا نُرى ببساطة.

(4)

لم أشعر في حياتي بالحسد تجاه شخص ما كما شعرتُ تجاه "آية حجازي"، وهي تجلس جوار الرئيس الأميركي "دونالد ترامب"، بعد أن استطاع أن يُخرجها هي ورفاقها من غياهب السجون المصرية، من خلال محادثة قصيرة مع السيسي.. يمكن أن أجمِّل الموضوع لأداري على تعبير "الحسد"، لكني إنسان اعتاد الاعتراف بضعفه وأخطائه، أعرف أنها دفعت الثمن من عمرها سنواتٍ ظلماً في السجن، بتهم ملفقة عبثية، فرَّقتها عن زوجها، وحرمتها من الحرية، لكن مجرد فكرة أنها وجدتْ من يبحث عنها، ويسعى لرفع الظلم عنها؛ لأنها تحمل "جنسية" دولة مواطنوها لهم ثمن لدى من يحكمونهم، حتى لو كان على رأس السُّلطة لديهم مهووس مثل "ترامب"؛ هذه الفكرة لم أستطع مقاومة أن أحسدها على امتلاكها.

أن يكون لكَ ثمن، لهو شيء رائع فعلاً، لا يعرف قيمة هذه الأشياء إلا المحرومون منها، مثلي، ومثل المصريين العاديين؛ الرعاع على اختلاف درجاتهم في نظر "الباشا".

يااااه! مواطن له قيمة وثمن لدى بلده!!

(5)

بهزة رأس لا مبالية من سيادة أمين الشرطة، بعد أن حرَّر لي محضراً، لم أجد صعوبة لأعرف مصير هاتفي المسروق، صحيح أن شهادتي الجامعية وملابسي المهندمة تكفل لي قدراً من الاحترام داخل قسم الشرطة، إلا أن هذا لا يضمن لي أكثر من هذا.

ما زلتُ ضمن منظومة الرعاع في كل الأحوال.

يمكنني الآن تذكر ما سمعته عشرات المرات عما تتعرض له زوجات وبنات المعتقلين، من إهانات وانتهاكات، خلال اقتحام البيوت للقبض على ذويهن، وخلال زيارتهن لهم فيما بعد في السجون، ليس مجرد "كلام" كالذي أزعج حضرة العميد عن حياته الشخصية، بل هي انتهاكات جسدية ولفظية ونفسية تُمارَس بشكل دوري.

يقول المعجم في توضيح معنى "الرعاع" إنهم "سفلة النَّاس، أَرْذال القوم وغوغاؤهم".

انظر إلى الصورة من حولك، دقِّق أكثر.. يمكنك أن تميِّز الرعاعَ الذين ملأوا المشهد ضجيجاً وظلماً ونهباً، آكلي الجيفة، ألا تراهم؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد