بالأمس كنا ننتظره على أحرّ من الجمر، داعين الله بلوغ أعتابه على خير، أما اليوم، فصرنا نتأفف من اقتراب موعده، بِتنا نتعوذ من جوعٍ وعطشٍ يلمّان بأجسادنا في أيامٍ حارّة طويلة، ولا نتعوذ من أسقامٍ أصابت نفوسنا وضمائرنا حتى أهلكتها.
بالأمس كان ضيفاً عزيزاً تضيء له شوارع المدن قناديلها الملوّنة، وتزدان المنازل بالمصابيح المتوهجة فرحاً وبهجةً؛ كانت لياليه المعدودات أعياداً للمبتهلين والمرتلين، وبركاته ذخيرةً للداعين، وأسحاره ملتقى للساعين إلى مثوبة الرحمن المسارعين إلى جناتٍ وأفنان، وصيامه حصناً حصيناً للمؤمنين، وقيامهم جْمَعاً للعابدين الخاشعين، أما اليوم، أصبح شهر العبادة شهر "تقديس" العادة، فصرنا نسرف في المآدب وشراء المآكل والمشارب، نتكاسل عن الطاعات والقُرُبات، نناجي هواتفنا بالدعاء لقضاء الحاجات، ونجلس أمام شاشاتنا نتبادل أطراف حديثٍ لا يخلو من لغوٍ أو غيبة، وكأن شياطيننا لمتُصفّد، وكأن نفوسنا قد جُبلت على حب التمرُّد.
بالأمس أُرسل ليُحيي الخير فينا، ليذكّرنا بالمستضعفين والمحتاجين، لينقّينا من دنسنا وخُبثنا، ويغيّر بعضاً من عاداتنا المقيتة، ليسكب على قلوبنا فيضاً من إناء السكينة والطمأنينة، لينعشنا من استهلاكيتنا المخدِّرة، ليضاعف أجر مَن عمل منّا صالحاً من ذكرٍ أو أنثى، ليصطفي منا المجاهدين ويعتق رقاب التائبين.. ولكن ما الذي تغيّر؟ أهو مَن تغيّر علينا؟ لا، بل التغيير جاء منا واستحكم بنا.
لقد حولنا شهر رمضان من "فرصة ذهبية" لاكتساب عادات حميدة تمسي بالإرادة والمجاهدة سلوكاً يرجى دوامه، إلى مجرد فترة سجن مؤقتة للبدن يُحرم فيها من حاجاته وملذاته ما بين ساعتَي الفجر والمغرب.
أما السبب فقد يرجع إلى غفلتنا عن فضائل الشهر المبارك والتأثر بما يقدمه الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من ملهيات ومغريات، وليس غريباً أن ننسى في وسط انشغالنا أن للروح حاجاتها أيضاً وأنها تتلهف لهذه الإجازة السنوية للتحررّ من أغلال الرتابة والسموّ في رحاب الإيمان.
ولا عجب أن نفقد معنى "اغتنام الوقت الثمين" حين نمضي ساعات الليل والنهار في متابعة المسلسلات والبرامج ونلبّي دعوات الإفطار والسحور والسهرات كل مساء بدلاً من استغلال الثواني التي تمضي على استعجال في أداء العبادات كقراءة وتدبر القرآن، مثلاً، بنية ختمه ولو مرة واحدة على الأقل.
وهناك سبب آخر أكثر أهمية، برأيي، لفتور علاقتنا مع الزائر الكريم، وهو انحرافنا عن مسار الصوم كعبادة روحية سامية، هدفها إمساك الجوارح عن المعصية وليس مجرد إمساك البطن عن الطعام والشراب.
الصوم في جوهره هو "الشعور بمعاناة الفقراء"، فلو أن كل فردٍ منا جعل في نيته إطعام فقيرٍ واحدٍ على الأقل كل يوم، أو التكفل بحاجات عائلة مستورة واحدة لكان ذاك كافياً لتهيئة أجواء روحانية تليق بالضيف الآتي وإعداد النفوس قبل الأبدان للاستفادة من دروسه وحكمه.
ولا يعني ذلك أن ليس فينا مَن يؤدي واجب الزكاة ولا يؤتي الصدقات في هذا الشهر الكريم، بل إن أكثر الناس يفعلون ذلك في رمضان بالذات، دون غيره. والأولى أن يكون رمضان انطلاقة أعمال ومشاريع خيرية تسعى إلى الارتقاء بمجتمعاتنا وتخفيف الأعباء الاقتصادية على الرازحين تحت خط الفقر.
وما أجمل أن يصبح الخير متأصلاً فينا، لا يرتبط بفترة زمنية ولا حالة وجدانية، وأن نكون ببذلنا وإيثارنا بالفعل "خير أمة أخرجت للناس".
إلى أن يحين موعد لقائنا الوشيك نرجوك يا رمضان أن تسامحنا على قلة وفائنا، وأن تحسن إلينا وإن لم نحسن استقبالك، لا تبخل علينا إن لم نكرمك كما يجب أيها الزائر الطيّب المحمّل بالهدايا النفيسة، واغفر لنا انشغال قلوبنا عنك يا جامع القلوب.
ويا دعاة الخير اسقوا بذور الطاعات في شعبان لتحصدوا خشوعها في رمضان، هللوا لقدومه، رمضان للأرواح أنس وللاستقامة نبراس، افرَحوا لقربه وأفرِحوا، فوالله مَن لم يدرك رمضان بالجسد والروح فمحرومٌ محرومٌ محروم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.