في محكمة الموتى التخيلية؛ حيث يقف المذنب أمام محكمة الآخرة المكونة من اثنين وأربعين قاضياً، على رأسهم أوزوريس إله الحساب، ومن ثم يبدأ الحساب بترتيل المذنب جملة من الجرائم البالغة قرابة الأربعين خطيئة بصيغة النفي، فيذكر أنه لم يسرق، لم يقتل، لم يغش.. حتى نصل إلى قوله "لم أتسبب في بكاء أحد"!
لم يكن الواحد منا ليتصور براعة المصريين القدماء في مسالك العلوم النفسية حتى أدركوا أن دفع الغير للبكاء يعد من جملة موبقات الحياة الدنيا التي تشترك جميعها في صفة إيقاع الأذى على الغير؛ لذا لا غرو أن عدوه من جملة ما يُسأل عنه الإنسان يوم قيامته.
بيد أن ما يجعل الإبكاء في بعض أحواله أسوأ من باقي الجرائم السالف ذكرها، أن المرء مهما تعاقب عليه الليل والنهار، فإنه ذاكر جريرته كالسرقة والقتل والرشوة لا محالة، بيد أن جريرة الإبكاء لها وضع حرج نسبياً، فقد نجرح، أو نسيء، أو نفطر قلب إنسان على غير قصد دونما إدراك، وقد تنقضي الأيام دون ملاحظة ذلك، وقد تنقضي مع تلك الأيام حياة إنسان، وخذها قاعدة راسخة: حينما يتعلق الأمر بالبكاء فاعلم أن الألم قد جاوز المدى.
بعيداً عن محكمة أوزوريس تلك، تخيلت كيف سيكون وضعنا في نهايتنا الحتمية؟ هل من الممكن أن نقر بمثل ذاك الاعتراف بين يدَي رب العالمين؟ لست أدري ولكنه ليس ببعيد في شريعة أُخبرنا فيها أنه سيكون هنالك قصاص للشاة الجلحاء من أخرى قرناء لنطحة نطحتها بها في الحياة الدنيا.. يا لَرحمة الله ويا لَشقاوتنا!
"ولكل شيء جزاء إلا الدمعة، فلا جزاء لها إلا الرحمة والمغفرة ودخول الجنة، ذكر ابن الجوزي في بحر الدموع تلك العبارة مجتزئة من مناجاة الله لموسى عليه السلام، والمراد بها عين بكت من خشية الله، إلا أن وصف الدموع بتلك الأوصاف واقترانها بذاك الجزاء لدليل على قدر ماء العين، وإن اختلفت بواعثه وأسباب مجيئه.
الأمر الغريب أنه حينما يتعلق الأمر بالبكاء، نتذكر دوماً الذين أبكونا ونغض الطرف عن الذين أبكيناهم!
وإنه لأمر يبعث على الأسى ألا يكون لدينا إحصاء وافٍ لجملة مَن أبكيناهم منذ لحظة بكائنا الأولى حتى الساعة، ماذا لو ظهر البكاءون على صعيد واحد فهل سنملك الشجاعة حينها لدعوتهم للمسامحة؟
كانت العرب قديماً تعظّم من أمر الكلمة ومن أمر ما قد يترتب عليها، ذاك خبر قوم أُثر عنهم الأنفة والعزة، ومع ذلك أُثر عنهم قولهم: "إياك وما يعتذر منه"، فإن كان فيما سيجسرون عليه ما يستتبع اعتذارهم بعده، كانوا ليتوانوا عنه مخافة ذاك الاعتذار.
لربما هذه الأيام نحن أحوج إلى مثل ذلك، بل لعلي أجنح إلى تصريف المثل قليلاً ليصير: "إياكَ وما يُبكى منه".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.