تتداخل علاقة الأسير بالسجن والزنزانة تداخلاً حميماً على النحو الذي لا يمكن للأسير أن يقيم إلا في سجنه وزنزانته، وبقدر ما يأخذ السجن من عمره وشبابه وأحلامه، وبقدر ما يخلّفه من ألم وشعور بالحرمان، فإنه يقدم ويعطي ويعيد تكوين شخصيته وثقافته، ويشكل حالة وعي وإدراك لذاته وللأشياء من حوله.
فلا يكفيه النظر إلى الجدران، أو من ثقب الباب، أو بين فتحات الأسلاك الشائكة، بل ينظر من العتمة إلى الفضاء الأوسع والأكثر إشراقاً، إنه يرى الأهل والجيران والأصدقاء ويرى المستقبل والحياة الأخرى التي يناضل من أجلها بكل ثقة.
ربما هذه المعادلة التي تجعله يعيش كضيق السجن في جنباته دون أن ينهار أو يفقد القدرة على مواصلة حلمه.
لكل أسير حكايته المختلفة عن الآخر، وحصته من الآلام والمعاناة وقسوة السجان، ومَن عاش تجربة السجن يدرك تماماً كم هي طويلة وقاسية تلك اللحظات، ويدرك أن لا مكان للاستسلام، رغم كل ممارسات القهر واستخدام شتى فنون التعذيب والقسوة، واستغلال المشاعر الإنسانية لأقصى حد.
لهذا استوقفتني رسالة الأسير محمد براش، التي بعث بها من سجنه إلى شقيقه، رسالة مكتظة بمشاعر تدمي القلوب وتلدغ العقول، وكلمات تبكي الصخر، وتلين قسوته.. هذا نصها:
لا تقل لأمي بأني صرت أعمى، هي تراني وأنا لا أراها، أبتسم وأتحايل عليها على شبك الزيارة عندما تريد أن تريني صور إخوتي وأصدقائي وجيران الحارة، فهي لا تعرف أني أصبحت كفيفاً بعد أن دب المرض في عينيّ حتى غزت العتمة كل جسدي.
لا تقل لها بأني أنتظر عملية جراحية لزراعة القرنية منذ سنوات، ولكن إدارة السجن تماطل ثم تماطل.. وتستدعي إلى عيني كل أسباب الرحيل عن النهار.
لا تقل لها بأن شظايا الرصاص والقذائف التي أصبت بها ما زالت تطرز جسدي، وأن قدمي اليسرى قد بترت واستبدلت بقدم بلاستيكية، أما اليمنى فقد تعفنت وجفت من الماء والحياة.
لا تقل لأمي عن تحرر إحساس الأسير من عناصر التكوين الأولى، محكوماً برؤية الحديد والرماد، فلا أبيض يشع، ولا فرس تسرج الصمت أملاً يطيل الرجاء. قل لها بأني حيّ وسليم، أرى وأمشي وأركض وألعب وأقفز وأكتب وأقرأ، حاملاً وجعي على عكازتي، وأرى شقيقي الشهيد قمراً يفرش السماء ويناديني بقوة البرق والرعد والسحاب.
لا تقل لها بأني لا أعرف النوم، أعيش على المسكنات حتى تخدر جسمي، أتحسس حاجياتي فأرتطم بالبرش الحديدي، وبزميل ينام قربي، فينهض ليساعدني في الوصول إلى الحمام، اليقظة تؤلمني، والنوم لا يأتيني.
لا تقل لأمي بأن باروداً دخل إلى مقلتي في ذلك اليوم الدامي في شوارع المخيم، قنصوني حتى طارت قدمي وسال الدم من بصري، وقبل أن أفقد الوعي رأيت طفلاً يجري نحوي حاملاً علماً وهو يصيح: شهيد.. شهيد.
قل لها: إن كان حلمي لا يكفي، لك حنين بطولي لا يغادرني، ولي منك لغتي وحليبي ورموزي على الجدران أكشط بها وجعي كلما غاب الضوء من حولي.
قل لها إنني أتبع دعاءك الرمضاني إلى غيمة في يدي لأصل معيدي بعد أن ضاق بي جسدي، وربما أعود أو لا أعود، ولكني تركت الباب مفتوحاً، واخترت الوقوف قرب قلبك كأني اخترت غدي.
لا تقل لأمي إن دولة الاحتلال الصهيوني في القرن الواحد والعشرين حولت السجون إلى أماكن لزرع الأمراض، وإذابة الأجساد رويداً رويداً، حتى صارت السجون حقول تجارب على الأحياء الذين سيموتون بعد قليل.
لا تقل لها إنني أصبحت أحفظ كل أسماء العلل العجيبة والأدوية الغريبة وأنواع المسكنات أبلعها، وأنا أرى صديقي زكريا عيسى يدخل في غيبوبة طويلة في اللازمان قبلي.
لا تقل لأمي عن الأسرى المرضى الذين فاض الداء في أجسامهم جنوناً وحرباً: أحمد أبو الرب، وخالد الشاويش، وأحمد النجار، ومنصور موقدة، وأكرم منصور، وأحمد سمارة، ووفاء البس، وريما ضراغمة، وطارق عاصي، ومعتصم رداد، ورياض العمور، وياسر نزال، وأشرف أبو ذريع، وجهاد أبو هنية، يذبحهم السجن والمرض واستهتار دولة تجيد تصدير الموت والجنازات للآخرين.
قل لها: ما زلت على بعد ثلاثين باباً من البيت، أدنو منه كلما طار طائر واشتعلت النار في عيني، ولسعتني الأسلاك بين أضلاعك، والصلوات الخمس.
هكذا سطّر الأسير براش رسالته، وسجل بكلماته لمحات من التاريخ مُسهماً فيه في قراءة المكان والنفس الإنسانية، متجاوزاً الحدود الظاهرة والخفية والواقع الذي يعيشه هو ورفاقه الأسرى.
كلمات تُحفر في الذاكرة إلى الأبد، تلتحق بها أحداث كثيرة ومتنوعة.
إنهم الأسرى رجال الزمان والمكان ينيرون عتمة السجون، ويكتبون زمناً جديداً من خلف أستار المجهول، هم الأكثر إشراقاً والأكثر عطاء وتضحيات.
إن التجربة في الحالة الخاصة للأسير محمد براش، المحكوم بالسجن المؤبد، ومعتقل منذ عام 2003، بعد إصابته بجروح بليغة بالرصاص عند اعتقاله،
ويُعد من أبرز الحالات المرضية الصعبة في السجون، فقد الرؤية في عينه اليسرى، وبحاجة إلى ترميم للشبكية وزراعة قرنية، وهو مبتور القدم اليسرى، فله خصوصية عالية وفريدة، وتجربة أنتجت في السجن ثقافة باتت أداة نضال وسلاحاً في وجه السجّان، يرسم دروب الحرية من نوره وصموده خلف القضبان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.