"كانت في السابعة من عمرها، اشتكت لي من أن والدتها لا تحبها، بل تحب أخاها الصغير وتفضله في كل شيء.. تتجاهلها ولا تعبأ بها كما تفعل مع الآخرين، جمعت من مصروفها الشخصي مبلغاً اشترت به عقداً جميلاً هدية لأمها، قدَّمته لها في يوم الأم.. أُعجبت الأم بالعقد، ووضعته في عنق أختها عندما أخذت تبكي لأنها تريد العقد.. أكدت لي أن والدتها لا تحبها، وإلا لعانقتها وقبَّلتها عندما قدَّمت لها الهدية، وقالت لي أيضاً: لو كانت والدتي تحبني لاحتفظت بالهدية لنفسها.
حاولتُ إقناعها بأن أمها تحبها جداً، إلا أنها لم تصدقني، بل صدَّقت جفاف أُمِّها في معاملتها، وطلبت مني أن أسأل أمها: لماذا لا تحبين ابنتك الكبرى؟".
"جاءني قائلاً: نحن ثلاثة ذكور وبنت واحدة، ترتيبي الثالث بين إخوتي وعمري أربع عشرة سنة، لا أظن والديّ يحباني وإخوتي، بل يشعراننا دائماً بأننا عبء عليهما، رغم أن أخي الأكبر ينال بعض اهتمام والديّ، ويعاملانه كرجل، يتركز الحب والدلال على أختي الصغرى. يعتقد والداي أن إظهار حبهما لنا يفسد رجولتنا، لهذا لا بد من الجِد دائماً والقسوة في معاملتنا.
كتبتُ لأمي رسالةً، أرجوها فيها أن تحبنا، وأن تعطينا بعض الاهتمام وشرحتُ لها فيها وجهة نظري في هذا الموضوع، وتركتها على سريري قبل ذهابي للمدرسة، وعُدتُ ظهراً وأنا أتوقع أن تضمني أمي لصدرها وتذرف الدموع حباً وعطفاً، إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، بل أصبحتُ محطَّ سخرية إخوتي بعد أن قرأتْ أمي رسالتي أمام الجميع، كرامتي أُهدرت، وبدوتُ أمامهم كمن يتسوَّل الحبَ والاهتمام".
أدَّعي أننا جميعاً نحتاج للحب والاهتمام، مهما كانت أعمارنا وأحوالنا الاجتماعية والصحية والاقتصادية ومراكزنا وقوتنا، نحتاج الحب ليس من باب البطر أو التسلية، بل لأن الحب حاجة من حاجاتنا الأساسية التي لا نستطيع العيش من دونها، كحاجتنا للماء والهواء والنوم والطعام وغيرها.. رغم أنني أجدُ بعضَ القصور في فهم هذه الرغبة وفي التعامل معها في مجتمعاتنا الشرقية، التي جُبلت على الجفاف والغلظة.
ألاحظ كثيراً أن الناس يُغدقون مشاعرهم ودفئهم على الأطفال الصغار، لاعتقادهم أنهم هم من يحتاجون للحب، فإذا ما كبروا واعتمدوا على أنفسهم قلَّت حاجتُهم للدفء والود، لهذا ينحصر تعبيرُ الكبار لهم عن حبِّهم، وهي الفكرة التي يؤمن بها كثيرون، ليس لأن مشاعرهم تبدَّلت تجاهه، وإنما لأن اعتقاداتهم جعلتهم يغيرون طريقتهم في التعبير عن الحب.
ولو سألتَهم عن الأمر لأخذوا يستعرضون حُججهم التي تُثبت مدى حبِّهم له: ألا تشتري والدتُه له أفضلَ الملابس؟ ألا يُحضر له والده أجملَ الألعاب وأغلاها ثمناً؟ ألا تُرهق أمُّه نفسَها لتحضر له ما يحب من أطعمة وحلويات؟ ألم يضغط والدُه وقته ونفسه ليأخذه في نزهة ألحَّ في طلبها؟ وهكذا تصبح طريقة الوالدين في التعبير عن حبهما له تكاد تكون مادية بحته.
وأكرر أنهما يفعلان ذلك لإيمانها بأن الطفل يدرك تماماً أن حبهما له لم يتغير، وإنما تغيَّرت فقط طريقة التعبير عنه، التي يفرضها عليهما كونه أصبح كبيراً.
وإذا ما ألقى الطفل الكبير نفسَه في حضنِ أمِّه، أو رَكَضَ لمعانقة والده، بدأ الغمزُ واللمز والضحكات المستترة والهمسات التي تُلصِق بالطفل تهمةَ "الغيرة من إخوته الأصغر سناً". ولا ينتبهون إلى أنه يريد أن يقول لهم: "أنا أيضاً بحاجة لمن يضمني إلى صدره، ويمسح رأسي، ويقبلني".
وإذا ما صرَّح الطفلُ برغبته تلك، عنَّفوه بقسوة قائلين: ألستَ رجلاً؟ ألستِ فتاةً كبيرةً؟ هل تريد أن نعاملك كالصغار؟ هل تريدين أن تبقَيْ طفلةً صغيرة تتنقلها الأيدي والأحضان؟ هذا يكفي لقد كبرت!! فيشعر الطفل الكبير بالخجل من نفسه، ويواجه الخواء العاطفي الذي ألمَّ بروحه وحيداً صامتاً لا يستطيع استجداء الحب أكثر من ذلك، وإلا فإن كرامته سوف تهان وهو يسمع بأذنيه ويرى بعينيه استخفافَ الجميع به وبحاجته للحب والعناق.
وتتبدل الأدوار، ويكبر الطفل الذي تعلَّم الجفاف العاطفي، ويصبح صاحب مشاغل ومسؤوليات، ويصبح الوالدان هما من يحتاج لاهتمامه وحبه ورعايته، فيستغرب: عجوزان كبيران يطلبان الحبَّ والعطف والرعاية كطفل صغير؟ هل هو نوع من الغيرة، أم فراغ جعلهما يستجديان العطف؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.