كم كنت منهكة بعد يوم عصيب ثقيل التكاليف والواجبات، متعبة حيرى بين أعمال أُنجزت وأخرى لم تتم بعد!
هاتفي يصيح يناديني لأجيب صديقتي التي تطلب منّي أن أصطحبها لتقضي بعض حاجاتها من السوق، ولأني لم أكن ذلك الشخص الذي يستطيع الرفض وقول "لا" وافقت مرغمة ومضيت معها نقاتل الوقت في السوق ويقاتلنا حتى انتهى اليوم تماماً في الظاهر، لكن في داخلي لم تنتهِ الهموم التي ما زلت أحملها لما بقي عليّ من أعمال!
لم يمرّ كثير على هذا الحدث حينما طلبت منّي صديقة أخرى أن تزورني بالبيت فنتناول الشاي ونقترف من أحاديث الدنيا ما تسعفنا به، وبالطبع وافقت وإن كنت غير مستعدة لاستقبال أحد! فنحّيت كل شيء جانباً وجلسنا نحتسي الشاي على أطلال عملي وواجباتي، ولا عزاء لأصحاب الوجوه الخجولة. كثيراً ما قرأت آيات الاستئذان وآداب الزيارات، والكتب التي تعج بها، لكني دائماً ما أستسلم منهارة لأعراف مجتمعاتنا وعاداتنا، فعندما يقول لك أحد الأقارب إني زائرك اليوم، فليس استئذاناً مطلقاً وإن بدا في ظاهره كذلك، وليس لك رفاهية الاختيار أبداً، وعليك الموافقة مجبراً وإلا فأنت غليظ تفتقر الذوق واللياقة!
وإذا قدم لك أحدهم شيئاً تشربه أو تأكله فمن العيب الوقح أن ترفض وإن كان لا يناسبك! الأبعد من ذلك، كيف تطلب من أحدهم التحدث إلى طفلك بطريقة معينة؟ أو كيف ترفض تصرفه تجاهه؟ أو تتحفظ على تعامله معه وأنت أدرى بطفلك وأسلوبه، وحين تفعل ذلك فإنك تبدو خشناً للغاية؛ إذ كيف تملي عليه أو تطلب منه فعل شيء ما وهو كبير كفاية لأن تملي عليه كيف يتصرف مع ولدك أو كيف يكون في بيتك!
لا أدري لماذا ننزعج من القوانين على ما فيها من انضباط وترتيب؟! ولماذا نصادق الفوضى تحت مسميات اجتماعية تنخر فينا كسوس خبيث؟! أنا لم أنتهِ بعد من معارك فوضوية حياتي وإلزامها على أحسن وجوه النظام فكيف يا رب أعارك فوضوية الناس وآثارها المتعبة على حياتي؟!
في الحقيقة صرت أتدرب كثيراً على قول "لا" إذا لم يناسبني الأمر حتى لا أكون فريسة الظروف ورغبات الآخرين وحتى تكون حياتي بيدي لا بأيدي الآخرين، تختلف أولويات كل منا عن الآخر، فما تراه مهماً ضرورياً الآن ربما يراه الآخرون رفاهية وفراغاً والعكس تماماً.
الفيصل هنا أن يقف كل منا عند حدود حياته ويتقبل بل ويحترم دولة الآخر، حياتنا دولة لكنها تخلو من السجون لنعاقب فيها هؤلاء المتطفلين والمحشورين فيها، الذين لا يتركوننا لأمرنا ولا يتقبلون اعتراضنا، ولن يخلو الأمر أحياناً من السخرية عند الحديث عن النظام والوقت وقانون الحمية أو مواعيد النوم، فكل هذا هراء حيث لا يتفق مع رغباتهم وتفكيرهم!
فليكن إذاً فما نفعكم أو ضركم أنتم حتى تتكلفوا عناء الحكم والتحليل! تخيل معي كم عملاً سيؤجل وكم نظاماً سيتخرب وكم موعداً سيتأجل عندما تقول دائماً نعم لكل من حولك دون رغبة منك؟ تلك الورقة المعلقة على باب المطبخ "مغلق بعد التاسعة" في محاولة لتنظيم أوقات الطعام بالبيت لم تشفع ولم يكن لها معنى لديهم في زياراتهم المتأخرة.
تلك الجامعة التي سلكت طريقها إرضاء لأهلك دون نفسك، والعمل الذي طلب منك البعض تركه فهو غير مربح رغم إتقانك له، والفتاة التي لم تحبها وقيل لك إنها تناسبك وإن لم تشعر نحوها بعاطفة في قلبك أنت لا قلوبهم! كل هذا أخف وأهون من كلمة "لا" فيذهبون وتبقى أنت تتحمل التكاليف وترهقك قيود الأمور على نفسك، وفي النهاية الفشل فشلك أنت وأنت فقط، وحقاً أنت الملوم إذ لم تصفع وجوههم بالرفض وكثير من "لا".
القوة في أن تعرف كيف تدير أنت حياتك وكيف تُخضع الآخرين لنظامك فيما يخصك كما عليك أن تحترم قوانينهم الخاصة وطريقة إدارة حياتهم ما دام الأمر لا يخصك فكلٌ آتٍ الرحمن فرداً، طفلك، طَعامك وبيتك ولبسك وعملك تنتمي إليك لن يُسأل عنها غيرك، ولن يُلام فيها سواك، فإما تمتلك الشجاعة وتقول لا، وإما أن تترك أمورك لغيرك، وتكون كل من حولك إلا أنت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.