مأساة الإنسان.. ما جنته الحداثة وما بعدها

والدهشة في مثل هذا الحال ستدعو آلاف وملايين الأسئلة إلى عقل المفكر والإنسان الحقيقي ذي الفطرة السليمة، ليتوه في المصطلحات والمسلمات التي أصبحت من المجمع عليه في هذه القرية العالمية التي لا ترحم من يخالفها؛ ما سيجعله يعيش في عدمية وأناركية قد تقوده إلى بؤس كافكا وعدمية سارتر وعبثية كامو.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/21 الساعة 02:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/21 الساعة 02:58 بتوقيت غرينتش

في عصر العولمة، اختلطت على الإنسان المعاني والتعريفات وتاه بين المصطلحات والأفكار رغم أنه يتحرك من منطلق فلسفي وفكر له أبعاد ونظم، شاء أم أبى. فبحسب أرسطو، "إما أن التفلسف ضروري فلا بد من التفلسف، وإما أنه غير ضروري فلا بد أيضاً من التفلسف لإثبات عدم ضرورته"، فالأمر سيقود إلى تفلسف بلا شك، كما أنه يقول إن "الدهشة هي التي دفعت الناس للتفلسف"، وهو الأمر الغائب الذي افتتح به "جوستاين غاردر" روايته الفلسفية "عالم صوفي"، فانعدام هذه الملكة الفطرية يؤدي إلى رتابة قاتلة؛ لكثرة المسلمات وجهوزية الأجوبة المنمقة؛ ما قد يؤدي إلى ركود وجمود عام.

انعدام الشعور بالدهشة الذي يتسم به الأطفال سيقود الإنسانية للوقوف على "حافة الهاوية"، ولا أقولها انطلاقاً من الأساس الذي جعل سيد قطب يقول هذه الجملة؛ بل أقولها لأن الرتابة والآلية العلمية والعملية ستؤدي إلى ركود قاتل وفقدان للمعنى الإنساني الحيوي والذي يفوق قالبه المادي ويحيط باحتياجاته الجسدية.

والدهشة في مثل هذا الحال ستدعو آلاف وملايين الأسئلة إلى عقل المفكر والإنسان الحقيقي ذي الفطرة السليمة، ليتوه في المصطلحات والمسلمات التي أصبحت من المجمع عليه في هذه القرية العالمية التي لا ترحم من يخالفها؛ ما سيجعله يعيش في عدمية وأناركية قد تقوده إلى بؤس كافكا وعدمية سارتر وعبثية كامو.

ففي كتاب "الصحراء" للمفكر "علي شريعتي"، قال: "إن الفكر الذي ليس فيه ألم ولا التزام والذي لا علاقة له مع الحقيقة ويتيه في خلاء فارغ- فإنه يصل إلى عمية سارتر، وإلى عبث كامو، أو إلى جزع بيكيت من الانتظار، أو إلى انتهازية كافكا، أو إلى خداع النفس وأجنان الخيالية لدى أندريه جيد، أو إلى طغيان السريالية السوداوية، أو إلى تخيلات هيغل، أو توهمات بيركلي".

نستخلص قاعدة عامة من هذه المقولة؛ وهي أن الاعتدال بالفكر مع الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات والاستثناءات التي قد تقع واجباً لبناء هيكل معرفي ووعي جمعي متين لا يزيغ ولا يفرط أو يطفر ولا يخرج عن حيزه العام، ودليل عمومية ذلك هو توجه أبي جعفر المنصور للإمام مالك حينما قال له: "ضع للناس كتاباً في السُّنة والفقه، تجنَّب فيه رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمر وشواذ ابن مسعود ووطِّئه توطئة "، فكتب الإمام -رضي الله عنه- كتابه "الموطأ" الذي يضعه بعض العلماء بعد الكتب الستة عند أهل السنة، ومنهم من جعله أرفع من بعضهم درجة.

علامات الزيغ عن فطرة الإنسان وطبيعته المعتدلة العاقلة تتمثل في كتاب ككتاب "الياسق" الذي وضعه جنكيز خان كقانون وناموس لرعيته، وكان عبارة عن خلطة من التشريع اللاإسلامي واليهودي والأعراف المغولية؛ ظاناً أنه قد فعل ما لم يسبقه إليه أحد وكأنه أمر سيغفر له ما سفك من دماء وسيبرز جانبه الإنساني باهتمامه لمحكوميه والعلاقة بين الحاكم ومن تحته.

كذلك الأمر يتجلى في فلسفة هيغل عند قراءته للتاريخ؛ فقد قام بتقسيم الشعوب على أساس جغرافي يجعل من الشعوب الأوروبية ذروة العقل البشري ونهاية تاريخهم لما قد وصلوا إليه من جبروت ومساهمات فكرية عند انتكاسة المسلمين في الحقول المعرفية؛ ما جعله يتنكر للحضارة الإسلامية وأن يذكرها على هامش محاضراته "في فلسفة التاريخ"، والأمر تجاه الشعوب الإفريقية يكون في حالة يرثى لها عنده.

والغريب أن مناهج التعليم الأوروبية تنظر للتاريخ على أنه مقسم إلى 3 أطوار (عصر الإغريق، والعصور الوسطى، والعصر الحديث من بعد الثورة الفرنسية)، بتغافل تام عن باقي الشعوب ووضعها على الهامش كأنها ظواهر عابرة لا وزن لها! وكأن أوروبا هي مركز الحضارة والعالم رغم أنها كانت تسبح في بحر من الدماء باسم الحروب المقدسة والنزاعات الكاثوليكية البروتستانتية!

ذلك فضلاً عن الغوغائية والانحطاط الفكري الذي ما كانت لتقوم له قائمة لولا ترجمات المسلمين وفلسفتهم التي انتقلت إليهم وعلى رأسها فلسفة ابن رشد؛ ما دفع الكنيسة لرصد توما الأكويني للرد عليها لشدة العندهية والتخلف.

تجلت نظرة هيغل في العصر الحديث عند فوكوياما وغيره من المفكرين الذين وضعوا للتاريخ نهاية، تزيد على الإنسان محنته الفكرية وتجعله مقولباً في زمان ومكان وبُعد معرفي أحادي الاتجاه يسير بشكل عمودي في إطار دنيوي بعد أن كانت النظرة العمودية للزمان تنطبق على الفكر الديني الذي يقضي السير من الدنيا إلى عالم الملكوت صعوداً وهو ما تحول لنظرة أفقية.

لكن غفلة الباحثين وتعنّتهم ومناكفتهم للأفكار الدينية التي تقيدت بالأفكار المسبقة الجافة أعمتهم عن عمودية النظرة للتاريخ في الإطار الدنيوي؛ ما جعل الدنيا هي الغاية فكان التصاعد عبارة عن تصاعد مادي في بحر فكري عاجز عن توفير الأساس النظري والفلسفي لهذه النظرة، وسيبقى عاجزاً عنها؛ لأن السياق المادي والدنيوي أقل بحبوحة من السياق الروحي والديني الذي يقدم للفرد الحاجة المادية والروحية ويعنى بالميتافيزيقا واللاهوت والتي تشكل جانباً
يضمن للإنسان حيويته.

لاحَظ تلك الحاجة علي عزت بيغوفيتش في كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" حين كتب عن كون الفن والحركات الإيقاعية والصوتيات والرسوم عند الإنسان القديم فيها دلالة لحاجة تحتاج سقاية وتروي ظمأ ليس محسوساً أو مادياً يخدم الجسد بشكل حصري.

كما أن الأستاذ عباس محمود العقاد قد أوضح في كتاب "الله" أن الإنسان ومنذ القدم قد اتخذ لنفسه طواطم متعددة أخذت تتقلص وتنحصر حتى وصلت ذروتها في الديانات الإبراهيمية والتوحيدية وكان ذروة سنامها الإسلام.

قد يكون هنا جانب حتمي يتصيده الجهلاء، لكن يرافق ذلك الصيد غشاوة عن أن هذه الحتمية هي على الصعيد الفكري دون العملي وأن هذه الذروة يستنبط منها وجود مسار فكري وروحي يعنى بالجانب المادي والميتافيزيقي؛ ليخدم الواقع الأنطولوجي العام وعلى مر التاريخ، الأمر الذي يعجز عنه أي بشر لقصر نظره وملكاته عن الإحاطة بهذه العمومية وشدتها إلا إن نبعت عن كامل مطلق يحيط بكل جوانب الإنسان كإنسان متجرد ويحيط بجوانبه وما قد يزيغ به عن هذه القاعدة.

فوضع له النظام والناموس المتمثل بالفقه والتشريع والأخلاق والتي نجد بها مندوحة واسعة جداً لن يقرها إنسان لا بعلمه ولا بقدرته لنقصانه ومحدوديته، وتنزيل ذلك هو دلالة على وجود الكمال وتوجيهه ضروري، فهو ليس ما يخلق ويترك كما ظن أرسطو؛ بل إن دستوره قائم وإعجازه دليل ذلك؛ لكونه لا يحيط به عقل بشري، كما أن هذا النقصان هو دافع البشر لاتخاذ الآلهة القديمة وتكوين الميثولوجيا والخرافات والأساطير بشكل بدائي، وهو ما برز في مؤلفَي العقاد وبيغوفيتش مما ذكرت سابقاً.

في هذا الجو الذي يطغى بمادية قذرة، نجد مؤلفات تعبر عن هذه المأساة الإنسانية التي تاهت وسلبت في هذا الجو مثل (الساعة 25-قسطنطين جيورجيو) و(اللامنتمي-كولن ولسون) وهذا التيه ينسرب إلى الجانب النفسي والتكويني للفرد الذي أصبح حجراً وصندوقاً مغلقاً مغرقاً في حاجاته دون اعتدال أو نظام، فضلاً عن أخلاقيات المعاملات التي تسلب الفرد خصوصيته وتفرُّده وتعبر عن تنكر للإنسان وكينونته كأنه حيوان متطور فقط، لكن الأسى في أن هذه البيئة لها أساس نظري وفلسفي متهافت لا نجد عند مناوئيه إلا تخبطاً وتيهاً.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد