اليابانيون كيف ولماذا؟ “6”| غريب أينما أكون! اليابان ما بين الخيال والواقع

منذ عدة أعوام وبعد حصولي على الجنسية اليابانيّة، وبواقع عملي الذي يتطلب السفر إلى بلدان شتى للمشاركة في مناسبات وأحداث علمية وثقافية مُختلفة، كنت كلما مررت بمطار ما من مطارات بلدان العالم المختلفة أجد الكثير من الناس يسألونني وهم على وجوههم علامات الدهشة والحيرة معاً: "كيف يكون هذا؟!".. وهنا تكون إجاباتي دائماً بكلمة: "ولم لا؟"، وهذا الذي كنت -وما زلت- أسأل عنه وبعبارة أخرى يتساءل عنه الآخرون: كيف أكون يابانياً بملامحي هذه؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/21 الساعة 02:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/21 الساعة 02:42 بتوقيت غرينتش

فكيف نرى الآخر وكيف يترآى لنا؟ سؤال وتساؤل جدير بالطرح والتفكر في زمن بات فيه فهم الآخر أمراً صعبَ المراد عتيَّ المنال.

منذ عدة أعوام وبعد حصولي على الجنسية اليابانيّة، وبواقع عملي الذي يتطلب السفر إلى بلدان شتى للمشاركة في مناسبات وأحداث علمية وثقافية مُختلفة، كنت كلما مررت بمطار ما من مطارات بلدان العالم المختلفة أجد الكثير من الناس يسألونني وهم على وجوههم علامات الدهشة والحيرة معاً: "كيف يكون هذا؟!".. وهنا تكون إجاباتي دائماً بكلمة: "ولم لا؟"، وهذا الذي كنت -وما زلت- أسأل عنه وبعبارة أخرى يتساءل عنه الآخرون: كيف أكون يابانياً بملامحي هذه؟

والذي أجيب عنه هو: "ولم لا أكون يابانياً بملامحي هذه… وما المانع؟!".
قناعة ذاتية بوجود ياباني داخل نفسي، ورفض اجتماعي لهذا الوجود من قِبل الآخرين. ويتكرر الحدث خلال مشاهد الحياة المختلفة، فما كان مني إلا أنني قررت أن أجيب بكذبة في واقعها حقيقة، فبدأت أجيب بـ"أنني هاف"، فإذا برد فعل الآخرين يتغير مرحِّباً بهذا النتاج الفريد السلالة من نوعه، معبراً عن إعجابه بهذا الدمج الثقافي المتباعد الأطراف. وقد تكون كلمة "هاف" هذه كلمة كاذبة في معناها، لكنها بالنسبة لي صادقة في محفاها.

فهذا العام هو العام الحادي والعشرين لي على إقامتي في اليابان، وبهذا أكون قد قضيت نصف عمري في اليابان وأصبحت بواقع السنين المنقضية ورغم أنف الآخرين "هافاً يابانياً".

الطريف والمثير في الأمر، أن الجانب العربي المتمثل فيمن حولك ممن يعرفونك أو حتى ممن لا يعرفونك، تجدهم لا يتقبلون فكرة تحوُّلك إلى "شخص ياباني"، وذلك بواقع اختلاف الملامح والشكل المعتاد، كما أيضاً سوف تجد نفس رد الفعل من قِبل الجانب الياباني الذي يرفض الفكرة للسبب نفسه.. فقاسم الرفض هنا جغرافي بحت نابع من معيار الحكم على ملامح الشكل والوجه بشكل خاص.

والأجدر بالذكر هنا أن ما لا يعرفه الكثيرون منا عن العقلية اليابانية، هو ما لديها من ثوابت ترتكز عليها في اتخاذ قرار اعتبار هذا الشخص يابانياً أو غير ياباني، ومن أهم هذه المعايير التي ترتكز عليها الشخصية اليابانية في اتخاذ قرارها هذا، هو معيار الشكل وملامح الوجه، فالياباني يعتبر ما يعرفون بـ"الهاف" ليسوا يابانيين بشكل كامل المعنى، وذلك لاعتبارات اختلاف الشكل وملامح الوجه المتوارثة وأيضاً الأسماء على ما هو متعارف عليه بين أبناء الجنس الياباني الواحد.

وعلى الجانب الآخر من تركيبة هذه العقلية، تجد النقيض تماماً، فتجده ينظر إلى مَن له أسماء وملامح يابانية من أبناء الأجناس الأخرى، أمثال الأميركي والبرازيلي وغيرهما، ممن ولدوا وتربوا خارج اليابان، على أنهم أناس ينتمون إلى أبناء العرق الياباني؛ بل وتذهب بهم المشاعر إلى أكثر من ذلك، فتجدهم يعتبرونهم في كثير من الأحوال -في قرارة أنفسهم- "يابانيي الأصل وأميركيي المنشأ"، حتى وإن كانوا من أبناء الجيل الثالث أو الرابع الذي في أغلب الأحوال لم يقدر لهم أن يعرفوا اليابان ولَم يعيشوا فيها من قبل.

اما على الجانب الآخر في بلاد العرب، فهناك تجد أغلب الناس على اختلاف أشكالها وألوانها ترى الآخر بعين الأصل والعرق، لا سيما ملامح الوجه والشكل؛ بل ولون البشرة في كثير من الأحيان من مشاهد التواصل مع الآخر في الحياة اليومية بمجتمعاتنا، فتراه يعتبر من له ملامح آسيوية أو من له ملامح إفريقية معززة بلون البشرة السوداء بأنه ليس عربياً، والأمثال التي على هذا النحو كثيرة ومتعددة..

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يستطيع الإنسان أن يصبح إنساناً آخر في داخل ذاته وفي الوقت نفسه أيضاً في أعين الآخرين؟ أعني: آخر في الثقافة والعقلية… حتى لو كانت هذه العقلية والثقافة تختلفان مع ما يحمله من ملامح خلقية ونشأة ثقافية.

سؤال أطرحه على نفسي قبل الآخرين ولا أجد إجابة له مني ولا حتى من الآخرين، لكن الواقع الذي أجده في مشاهد الحياة المختلفة يحدثني مؤكداً لي: "إنك سوف تظل غريباً في أعين الآخرين فلا تطمح إلى أكثر من ذلك"، لكنه في الوقت نفسه يؤكد لي أيضاً أنني أستطيع أن أكون الآخر بثقافته وعقليته دون أن أتخلى عن ذاتي الأصيل.

كيف تُبنى العلاقة مع الآخر في المجتمع الياباني؟
وأعود هنا بسؤالي مرة أخرى لأبحث كيف تُبنى العلاقة مع الآخر في المجتمع الياباني؟ في اليابان، تُبنى العلاقة مع الآخر من منطلق قانون الجماعة الذي يحدد حدود العلاقة الاجتماعية والشخصية مع الآخر من خلال معيار مدى انتساب الفرد إلى هذه المجموعة أو تلك المنظومة، حيث يتم تصنيفه كواحد منهم أو خارج عنهم، وباصطلاح آخر كـ"عضو أو عنصر داخلي" أو عدم انتسابه له كـ"عضو أو عنصر خارجي"، وذلك تحت اسم مفهوم علاقة الترابط الجماعي فيما يُعرف في المجتمع الياباني بالـ"(uchi) داخل الجماعة" و"(soto)خارج الجماعة".

وهنا، يصبح لعنصر "المكان " دور هام في تحديد هذه العلاقة الاجتماعية القائمة مع الآخر، وهل هى علاقة (uchi) أي أحد أفراد المنظومة؟ أم أنه (soto) أي خارج أفراد المنظومة؟ وعليه يصبح مفهوم الآخر هنا هو الشخص الذي تجمعك به العلاقة الاجتماعية المتبادلة بين أطراف المكان الواحد أو بمعنى آخر أطراف المنظومة الاجتماعية الواحدة العاملة وفق نمط مكاني محدد.

فزميل العمل الذي تجمعك به علاقة الانتماء إلى المنظومة يصبح بالنسبة لك uchi (عضو جماعة)، أي فرد قريب لك تستطيع أن تتحدث معه وتفصح له عن أفكارك ومشاعرك في إطار العلاقة الجماعية والمكانية التي تربطكما بشكل مباشر معاً، وسكّان القرية الواحدة أو مواطنو المدينة والبلد الواحد يصبحون من هذا المنطلق والمعيار ينتمون إلى المكان نفسه أو إلى المنظومة نفسها.

وعلى هذا النحو، يصبح "الأجنبي" خارج دائرة الانتساب إلى هذا المكان المشترك (القرية أو البلد أو الدولة )، ويصبح من خارج المكان أي ( Soto)، والكلمة اليابانية "gaikokujin شخص من خارج البلد" أي "أجنبي" هي خير معبّر عن ذَلِك.

أي إن دائرة العلاقات الاجتماعية في اليابان تدور حول تحديد مسافة الفرد الاجتماعية ودرجة انتسابه إلى المنظومة التي يعمل بها أو التي يتعامل معها؛ وهل هو منها أو أنه من خارجها.
وهكذا وعلى هذا النحو، تجد لمعيار الانتساب الجماعي الـ(uchi) الداخل و(soto) الخارج تأثير غير عادي على تشكيل الكثير من علاقات الناس بعضها ببعض، امتداداً إلى تشكيل علاقات العمل والترابط الاجتماعي بفئات ومؤسسات المجتمع المختلفة.

وهنا تجد الأجنبي خارج دائرة الضوء فهو ليس عضواً بجماعة دائمة؛ ففي الصباح هو عضو عامل بجماعة الشركة التي يعمل بها أو المؤسسة التي ينتسب إليها، وهنا يتم التعامل معه على نفس ميزان باقي زملاء العمل الذي يجمعهم مكان واحد وأهداف مشتركة مثل مسؤولية مهام العمل الواحد.

أما في المساء وبعد انتهاء دائرة العمل المشترك هنا، ينفصل الناس وتنفصل العلاقات فيصبح الأجنبي بدوره عضواً خارجياً لا ينتسب إلى ثقافة هذا البلد أو تكوينه الاجتماعي، ومن ثم يتم التعامل معه كضيف وافد على هذه الثقافة فيكون له العذر أو الحق في عدم معرفة أو إدراك الكثير من الأمور الخاصة بالمجتمع.

وإلى لقاء في الجزء السابع إن شاء الله تعالى.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد