قيل لعمر بن عبد العزيز: إن الناس قد تمردت وساءت أخلاقها ولا يقومها إلا السوط، فقال: كذبتم، فإنه لا يقومها إلا العدل.
الثورة تعبير رومانسي للحالمين بالتغيير نحو الأفضل يقوم بها ويخوضها مَن انسدت في وجهه الأبواب، واسودَّ أمامه الأفق، وكل الأحداث الكبرى في التاريخ انبثقت عن ثورات تحمل وراءها فلسفة تكاد تتشابه في كل زمن ومكان، تعبر عن رفض الخلل الذي يطال البنيان الاجتماعي والسياسي وعلاقاته بين مكوناته، وعدم الرضا تجاه الانحراف عن المبادئ والقواعد الناظمة لها، ولا يكاد يخلو مجتمع مهما تميز بثباته واستقراره من هذا التحول، الذي يعد بحق إحدى سُنن التاريخ البشري.
عرف المجتمع الإسلامي خلال عصر الأمويين والعباسيين العديد من التحولات الاجتماعية والسياسية التي تميزت بالانحراف عن توجهات الإسلام الصحيح وثوابته الصريحة، خاصة دعوته إلى نشر العدل والمساواة، بفعل عوامل متعددة، منها تحول الدولة الإسلامية إلى إمبراطورية متعددة الأعراق والأديان والأصول الحضارية التي انصهرت في إطار حضاري جديد استمد العديد من مقوماته السياسية والاقتصادية، مثل خصائص نظام الحكم، ومبادئه، وطبيعة العلاقات بين النخبة الحاكمة وعامة رعاياه من الفلسفة السياسية للفرس والبيزنطيين.
فكان من الطبيعي أن تنتج هذه التطورات العميقة العديد من مظاهر التعسف والظلم الاجتماعي والانحلال الأخلاقي الذي ميَّز سلوكات الطبقة الحاكمة، ومهدت بذلك لانبعاث حركات ثورية معارضة استخدمت العنف كسبيل للخلاص من المظالم الاجتماعية، وحمل لواء الإصلاح، ولعل الأبرز في هذا الصدد ثورات الهاشميين من العلويين والعباسيين وثورات الخوارج على الأمويين كرد فعل على سياساتها الاجتماعية كالعنصرية ضد الموالي، أو بدوافع الثأر من الجرائم والتنكيل الذي عانى منه الهاشميون، خاصة العلويين في العهد الأموي.
وحتى الحركات الثورية التي نجحت في الوصول إلى السلطة كالدولة العباسية سواء، فإنه سرعان ما تنصلت من كل الالتزامات؛ حيث أقدم بنو العباس بمجرد وصولهم إلى السلطة على اغتيال قائدهم أبو مسلم الخرساني كإعلان صريح على الطلاق بين مبادئ الحركة والسلطة، فتم ترسيخ دعائم النظام الأموي البائد بالحفاظ على نفس الامتيازات والمصالح المادية للفئات المتنفذة.
ولتجنب خلق صراعات جانبية بين المكونات الاجتماعية للدولة الإسلامية تم الاتجاه نحو إقرار المساواة بين العرب والموالي، خاصة الفرس منهم؛ نظراً لقوتهم ونفوذهم عبر احتواء أشرافهم ودمجهم في عملية بناء الدولة والاستفادة من خبراتهم الإدارية.
بيد أن هذا الانفتاح الذي اتسمت به الدولة العباسية لم يرافقه اهتمام رسمي بتطبيق شعارات العدل والمساواة في المجتمع الإسلامي، بل تم ترسيخ نفس الممارسات السياسية والإدارية، خاصة في تدبير موارد الدولة وتوزيعها، خاصة في العصر العباسي الثاني الذي شهد استفحال العديد من الأزمات السياسية كانعدام كفاءة الحكم، وبروز صراع مرير بين مؤسسة الخلافة وقادة المؤسسة العسكرية، خاصة الأتراك منهم.
ثورة الزنج: الأسباب والغايات
ساهمت سياسات الدولة العباسية في إنتاج نفس الأزمات الاجتماعية التي طبعت العصر الأموي؛ إذ تزايد الاستغلال الطبقي والاجتماعي، وتكرس باستفحال الفقر الذي اكتوى به عامة المسلمين في ذلك العصر، خاصة بعد تشكل أرستقراطية مقربة من السلطة استحوذت على أهم الموارد الاقتصادية الممثلة في الإقطاعات الزراعية، خاصة في جنوب العراق، مستغلة حظوتها لدى السلطة ونفوذها للاستئثار بها باعتبارها إقطاعات تمليك، فمن أصلحها فهو أولى بها باعتبارها أراضي زراعية في ملكية جماعة المسلمين.
هذه الأوضاع ولّدت أرضية مناسبة لبعث الروح الثورية من جديد، فبدأت تظهر إلى العلن العديد من الحركات المعارضة لسياسات العباسيين، والتي وإن اختلفت من حيث توجهاتها المذهبية، إلا أنها تشاركت نفس المطامح والأهداف، أهمها تجسيد العدل بين المسلمين والاقتداء بعهد الخلفاء الراشدين النموذجي.
ولعل أهم الحركات الثورية التي هزَّت بعنف الدولة العباسية وقوضت استقرارها تبقى ثورة الزنج الأكثر تميزاً، سواء من حيث إنجازاتها المحققة أو برنامجها الاجتماعي والإنساني الذي ارتكز على منطلقات إنسانية كتحرير العبيد الزنوج ومساواتهم بباقي المسلمين.
اندلعت هذه الثورة في جنوب العراق ما بين 869م و883م ارتبط اسمها بالزنج؛ نظراً لكون غالبية أنصارها من الرقيق السود الذين جلبوا من المناطق الشرقية لإفريقيا كالزنجبار والصومال، وحتى النوبة، للعمل على كسح السباخ (الأراضي المكسوة بطبقة ملحية) وبيعه كملح، واستصلاح الأراضي الزراعية بإظهار التربة الخصبة عبر تجفيف المستنقعات منها، ونظراً لاتساعها وشساعة مساحتها تطلب اللجوء إلى جلب يد عاملة رخيصة قادرة على تحمل مشاق العمل في مثل هذه الظروف، فكان الزنج الخيار الأمثل لاعتيادهم هذه الأوضاع القاسية وجلدهم عليها، مما ساهم في تشكل كتلة عددية ضخمة ظلت تتزايد بفعل ازدهار تجارة الرقيق.
فكان من قدر هؤلاء البؤساء أن يعملوا ساعات عمل طويلة، والسياط على ظهورهم إن أظهروا أي تهاون أو تراخٍ أثناء ممارستهم لأعمالهم الزراعية في بيئات رطبة تنتشر فيها الأوبئة والأمراض كالمالاريا، مقابل طعام هزيل ورديء لا يسمن ولا يغني من جوع، يسمى بالسويق، وهو التمر الممزوج بالدقيق، في وقت تزايدت فيه ثروات أسيادهم بشكل كبير بفعل الأرباح المحققة من خلال هذه الأنشطة الإنتاجية.
وحيال هذه الظروف غير الإنسانية التي حولت آلافاً من الآدميين إلى أدوات رخيصة، فمن البديهي أن تظهر النزعة إلى التمرد في أوساطهم، خاصة مع انتشار أفكار الحرية والعدل الاجتماعي، ولعل أبلغ دليل على سوء أحوال الزنج الاجتماعية هو انحيازهم إلى أول دعوة للثورة، التي أعلنها محمد بن علي، الشهير في المراجع التاريخية بصاحب الزنج؛ حيث أجاد العزف على وترهم الحساس؛ لذلك انضمت أعداد غفيرة منهم مقتنعة بأن الثورة بارقة أمل للخلاص من وضعهم البئيس، والموت في سبيل تحقيق هذه الغاية أفضل من الموت جوعاً تحت السياط.
الإنجازات المحققة
وأمام اتساع القاعدة الجماهيرية والحماس الذي أبداه الزنوج للخلاص من أوضاعهم الاجتماعية المزرية، بدأت الثورة في التمدد مستخدمة العنف كوسيلة لتقويض دعائم الدولة العباسية؛ حيث استطاعت تكبيدها خسائر فادحة باقتطاع مناطق واسعة في جنوب العراق، وفارضة عليها حصاراً اقتصادياً خاصة مع قطعها لمحاور التجارة البحرية طيلة أربع عشرة سنة من 869 إلى 883، كما قام قائد الثورة بإعلان دولته الوليدة على الرقعة التي سيطر عليها بكل مقوماتها وأجهزتها السياسية والاقتصادية من جيش ودواوين بل أحدثوا لأنفسهم مركزاً حضارياً سموه بالمختارة يضم تشكيلاتهم المركزية لتسيير شؤونهم المدنية والعسكرية، ووضع الخطط اللازمة لاستكمال عملية التوسع.
شكلت هذه الدولة تجسيداً للعقيدة ثورة الزنج بتطبيقها شعار التحرير والمساواة بين العبيد وباقي المسلمين؛ إذ تحسنت أوضاع الكثير منهم بامتلاكهم الأراضي الزراعية والمنازل، وبدأ البعض منهم في مراكمة الثروات الهائلة، خاصة القادة منهم المقربين من زعيم الثورة محمد بن علي، لكن هذه الوضعية لم تدم طويلاً؛ إذ تكالبت كل القوى المضادة لها على إسقاطها من مؤسسة الخلافة العباسية ومؤسستها العسكرية وطبقة مُلاك الأراضي الذين خسروا عبيدهم وضياعهم بعد اندلاع هذه الثورة
عوامل فشل ثورة الزنج
وأمام الخطر الوجودي الذي شكَّلته الثورة الزنجية على النظام السياسي والاجتماعي، بدأت الدولة العباسية في التعبئة للقضاء عليها الاعتماد كل الموارد المتاحة من أجهزة الدعاية كخطباء المساجد والعلماء لنزع الشرعية والتحريض عليها بوصفها بأقذع النعوت، كالمروق من الدين، والخروج عن سلطة بيعة الإمام، وتجييش المقاتلين من الجند النظاميين والمتطوعيين، فكان من المنطقي أن تندلع المواجهة من جديد بين معسكر الخلافة وأنصارها ومعسكر الثورة، وأمام التفوق العسكري والمادي الهائل والرمزية الدينية للخلافة العباسية انهزمت الدولة الزنجية، ولم تصمد طويلاً بالرغم من المقاومة الشرسة التي أبدتها وانتهت بمقتل رمزها علي بن محمد.
ومن العوامل التي عجلت بالفشل، الطبيعة العرقية للثورة المكونة من الزنوج، فالعقلية السائدة في تلك المرحلة كانت تنظر إلى العبد بنظرة دونية باعتباره من الممتلكات الخاصة ووسيلة للعمل والإنتاج، فكيف يعقل بأن يصبح سواسية مع الحر ومالك لقراره ونفسه، وهو ما يفسر ضعف أعداد الفقراء في صفوف الثورة، بالرغم من سوء أوضاعهم المعيشية، كما أنه من جانب آخر ساهمت الأساليب الوحشية التي اعتمد عليها الزنج في توسعاتهم العسكرية من إحراق الضياع ومهاجمة القرى في تنفير العامة منهم، ويضاف إلى ذلك سوء تقدير حجم مؤسسة الخلافة، والتي وإن شهدت تراجعاً وضعفاً كبيراً فقد ظلت تحظى بالشرعية الدينية، وهكذا انحصرت الثورة بموت قائدها ولم يكتب لها الاستمرار.
كانت الثورة الزنجية صراعاً طبقياً بين العبيد وأنصاف العبيد والسادة بطابع إنساني بحث، وجسدت بوادر تشكل وضع سياسي واجتماعي جديد خلال أواخر العهد العباسي، فكانت مبادئها التحررية ميزة جعلتها سابقة لعصرها، ملهمة بذلك حركات اجتماعية أكثر نضجاً من حيث وسائل العمل وأوضح في برنامجها الاجتماعي، وأهمها على الإطلاق ثورة القرامطة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.