في السنة الماضية قابلني رمضان في مكان لم أكن أحب أن التقي به فيه..
لا أقصد الجغرافيا(رغم إن ذلك صحيح أيضا..لم أحب لقاؤه لي في أمريكا)..لكنه فوق ذلك جاء وأنا بعيد للمرة الأولى عن أسرتي ..كان ذلك رمضاني الأول في الغربة..(والأخير كما آمل)..و لم أكن أتخيل أني سأجد رمضان يستقبلني كل يوم وأنا وحدي.. إفطارا وسحورا و قياما وقعودا..كنت قد تبرمجت على جملة من المعاني الرمضانية التي تكون فيها "الجماعة" أساسا و تكون العائلة الركن الأهم فيها..
لكن رمضان الذي زارني في الغربة أفهمني أن هناك زوايا أخرى كانت غائبة عني..زوايا قد تكون أقل ظهورا و ضجيجا..لكنها ليست أقل أهمية..اكتشفت يومها إن رمضان هو أيضا صديق الغرباء والمغتربين، وإنه لا يترك غريبا إلا و يشاركه لقمته ويقاسمه جوعه وعطشه ووحدته، بل أنه يربت على كتفيه بحنان و يمسح تلك الدمعة السرية التي تنام بين أهدابه..
تعرفت يومها على رمضان آخر لم أتعرف عليه من قبل.. عرفته صديقا للصمت وأنيسا للوحشة،لا أنكر أني كنت أتمنى رمضانا بالقرب من أولادي حيث لا يعرف الهدوء دربا أو سبيلا للكيلومتر المربع المحيط بنا، لكن في غيابهم على الأقل كان رمضان الآخر خير بديل..وأدهشني تماما أنني لم أتعرف عليه من قبل وأن أحدا لم ينوه به..
لا أقصد بصديق الصمت هنا جو التأمل الروحاني الذي أقر إني لم أتقن دخوله يوما بالطرق التقليدية التي يدخل من خلالها الناس (وبالتالي لا فرق كبير هنا في الموضوع)..بل أقصد به جو الألفة والسكينة الذي أحاط بي من خلال رمضان،..جو غريب مختلف تماما عن المظاهر الجماعية لرمضان (التراويح ،صلاة الجماعة..الخ).. في الغربة وجدت جوا رمضانيا في الانفراد والعزلة..وجدته مثل صديق قديم يجلس معي في الغرفة ولا ينطق بكلمة واحدة ولكن مجرد وجوده يثير دفئا و يشيع أمانا..
كنت واثقا إن كل الغرباء تعرفوا على هذا النوع الخفي من الرمضان الذي يزورهم مرة في السنة في قارات غربتهم..لكل منهم غربته وأسبابها ..ولكن لهم جميعا يأتي رمضان فيخفف عنهم وحدتهم و يزيح غربتهم ويؤنس وحشتهم..قد يأتي بصمت ويجلس بصمت.. لكن مجرد حضوره كفيل بإزالة شرنقة الغربة عنهم..
تخيلت أن نوعا خاصا منه يكون مع المساجين في زنازينهم ، مع الأسرى في معتقلاتهم..لكل منهم رمضانه الخاص به الذي لا يشابه رمضاننا المليء بالشعائر الاحتفالية..لا أشك أن كلا منهم يود رمضانا يشبه ما تعودناه من رمضان، أي رمضان بالحجم والبعد العائلي،لكني لا أشك أيضا أنهم يستشعرون ذلك البعد الخفي من رمضان..البعد الذي يؤنس وحشتهم ويخرجهم من زنازينهم..
لا أشك أيضا إن هناك من يعاني الغربة والاغتراب وهو في بلده و في زحام أهله وناسه،أو طليق يستشعر جدران الزنزانة الافتراضية وهي تضيق عليه أكثر فأكثر حتى تكاد تخنقه..
لهؤلاء أيضا رمضان من نوع خاص..يخفف عنهم وحدتهم و يسهل عليهم التفلت من قيودهم..
مشكلتهم الوحيدة هي أن عليهم أن يعرفوا بوجود هذا النوع من الرمضان لكي يتمكنوا من استقباله..
أما غرباء القارات فهو يدخل عليهم بلا استئذان…
يُتبَع..
– تم نشر هذه التدوينة في موقع الدكتور أحمد خيري العمري
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.