عن الأرواح المتهالكة في متاهات الحياة التي لا ترحم، عن النفوس الضائعة بين عقارب زمن ينهب السنين نهباً ويلتهمها التهاماً، في سرعة مذهلة وعلى نحو يثير مجامع القلب وأوتار الحس.
عن أمواج الحياة التي تتقاذفنا بين مد وجزر، بين أحداث متفاوتة الحجم والتأثير، نسعى من خلالها للحصول على فرح وسعادة تجرد ذواتنا من أثواب الهم الكالح وتحررنا من الحيرة والارتباك، لتسبح بنا في عالم صادق يلامس دواخلنا، فنجد أن تلك اللحظات قليلة في عالم الأرقام والدقائق، قصيرة في دنيا العد والحقائق.
عن البسمة المفتقدة، عن الصدق الغائب، عن كبر دائرة معارفنا وسجل أرقامنا وقلة الساكنين بقلوبنا، عن الاهتمام الذي غدا نادراً واللامبالاة هائلة، عن الركض وراء ما هو زائل، عن أصحاب الدموع المترقرقة في العيون، المكتوين بنار الحسرة البالغة والحزن الدفين، المكابدين رغم الألم والصامدين في وجه الحياة.
عن فاقدي الحب ومنكسري القلوب، عمن تجرعوا مرارة الخيانة والخذلان، عن الحروب والدماء والنصب والاحتيال والزيف، عن المظلومين، عمن يكتمون جمرة العذاب.
عن مدمني السهر، أصحاب الجفون المتورمة، الهاربين من النوم نحو مناجاة سواد الليل الحالك بنفوس متذبذبة المشاعر، معذبة الخواطر، عن صفعات الخيبة، عن العلاقات التي اندثرت لأتفه الأسباب، عن الأنانية التي دمرت نوايانا.
للكلام الذي لم يصل إلى ذلك المقصود، لعبارات لم تُنطق في وقتها، للصمت القاتل، للكرامات التي لم تُصَن، للضمير الذي لم يحيَ، لكل من أحب بعمق ومنح وتشبَّث لكنه دُهس في منتصف الطريق.
لمن سلبتهم الحياة شخصاً عزيزاً وذاقوا العناء باكراً وأحسوا بصغر الدنيا، لمن حرمتهم الأقدار من تحقيق أمانيهم الصغيرة وأحلامهم البسيطة، لكل شيء انتهى بسرعة، لكل من ظنناهم خالدين في القلب، لكن سرعان ما استفقنا على صدمة التقلبات.
عن صورنا القديمة التي أصبحت باهتة من فرط ما أصابنا من تغيير، فصارت ذكريات تنخر الفؤاد وتقيد نار الحنين.
عني وعنكم.. إن الحياة عابرة، فانية، بين شق مبهج وآخر مؤلم، نحن نعيش ونتأقلم، فلولا الفراق لما كان للقاء معنى، لولا المحاولة والمثابرة لما كان للنجاح وقع خاص، لولا الحزن لما ضحكنا بعمق.. لو اكتفينا بالعيش في شق واحد، نفقد متعة الحياة الفعلية.
ما دام نبض قلبك قائماً فأنت حي يُرزق، رغم أن الطريق يبدو لك شاقاً، لكن الشمس تشرق كل صباح لتخبرك بأن الدنيا لن تقف عند همومك لكي تداريها، فاستجمع قواك واحمل عبء هشاشة قلبك وحدك، واغتنم كل فرصة لتحيا كما تريد أنت.. كما تريد أنت فقط.
لم يخلقنا رب الكون لنندب حظنا بين الفينة والأخرى ويغتالنا اليأس، لم يخلقنا الله لنعيش طويلاً ونعمر بهاته الأرض حتى ننعزل ونعيش التعاسة ليل نهار.. خلقنا لنُمتحن، لنجرِّب ولنُبتلي.
حياتنا قصيرة، قصيرة جداً مهما حاولنا التغافل عن ذلك.. فلتنزعوا تلك الغشاوة ولتعيشوا مدركين أن الحساب لا مفر منه، فلو علم كل واحد منا أن نهايته غداً فسيهرع لكي يحقق كل ما كان يحلم به، سينسى اليأس ويبني قصوراً من الأماني، سيحاول ترميم كل ما هدمه من أشياء وعلاقات.
لا تنتظروا الغد لتكونوا أفضل، عيشوا اليوم فهو راحل واطمحوا إلى الغد، وحرروا نفوسكم من السواد، ولوِّنوها بألوان زاهية.. أنتم أصحاب لوحة حياتكم، لوِّنوها كما شئتم.
مَن ترككم فادعوا له بالتوفيق ولترافقه السلامة، لو كان خيراً لظل بجانبكم، لم نُخلَق ملتصقين بعضنا ببعض، إن جمعتنا دروب الحياة واتفقنا فتلك نعمة، إن لم تجمعنا فذلك قدر ونصيب..
لا تنهكوا أنفسكم بتفسير نواياكم، من سيحبكم فعلاً فسيحبكم كيفما كنتم، سيحب الإنسان القابع داخلكم.. احترموا ذواتكم ولا تؤذوها بالصبر على من لم يقدِّر وجودكم بحياته وانفضوا غباره وارموا برسائله.. فالعلاقات وُجدت ليُسعد بعضنا بعضاً، لا لكي يستهلك الآخر أجمل ما فينا.
فما دمتم على قيد الحياة، سالمين، راكضين وراء الرفاه والاستقرار الظاهري.. فلا تنسوا السعي وراء استقرار نفوسكم بالبحث عن تلك النسمات والتفاصيل الباعثة على بسمة تنطلق من قلب مفعم بالصدق والصفاء، في عالم يموج بالتناقضات ويفيض بألوان الصراع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.