خيَّم المشهد السياسي في العراق ونقل أزماته بكل تجلياتها وانفعالاتها إلى المجتمع، وغطَّى بذلك الحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للناس، وتحولت الأفعال السياسية إلى حدث يومي لدى المواطنين، وصار الجميع في لحظة واحدة يمتلكون تجربة سياسية واسعة ويطلقون الأحكام والآراء جزافياً، إلا أنها تكشف حجم الاهتمام المبالغ به.
المصيبة أننا انسحبنا إلى المشهد السياسي دون أن نشعر، وتحولت فضاءات مواقع التواصل الاجتماعي إلى فضاءات متشنجة من الخطاب والتحريض والتسقيط المستمر، بين الجميع وضد الجميع، مبتعدين بذلك عن الفعاليات والاهتمامات الجمالية والترفيهية.
تحولت تلك المواقع إلى مواقع سياسية؛ إذ إنك قد تتفاجأ أحياناً حينما تجد أن هنالك مَن لا يتابع الشأن السياسي ولا يعلق عليه، وتلك المواقع اختصرت للناس الكثير كي تكون عن قرب من الحدث وتتفاعل به، إذ تجد أن الجميع يتحدث بآخر المستجدات السياسية وآخر المناكفات التي تحصل، وآخر ملفات الفساد التي يتم الكشف عنها.
وليس الأمر في السياسة فقط، بل بكل الجوانب والاتجاهات والاهتمامات الحياتية في العراق، ويبدو أن تشنج الخطاب السياسي انعكس بشكل واضح على الخطاب الثقافي والإعلامي؛ حيث تحولت العلاقات إلى مشاكل ومشاحنات مستمرة بسبب الموقف السياسي.
أدى ذلك إلى بروز متسلقين في الأحزاب، وهؤلاء انتشروا بشكل واسع، وانصهرت قيم الحزب ومبادئ الانتماء فوق مبادئ الوطن والإنسانية والمحبة واحترام الناس، انسحبت كل تلك الأمور لصالح مبادئ الحزب "البراغماتية" التي يحاول أن يثبت وجوده في كل مكان مستغلاً الظروف الاقتصادية والعاطلين عن العمل؛ كي يروج نفسه لهم، ويقلل فرص خياراتهم إزاءه.
هذه المشاكل دفعت الكثير من الأصدقاء للدخول في مناقشات سياسية كبيرة على فيسبوك أدت إلى خسارة الأصدقاء لبعضهم، وبطرق مؤسفة، وأدت التقاطعات إلى العزلة، وكانت هذه النتيجة انفصاماً وخراباً بين الجميع، دون أن تكون هنالك حلول أخرى بعيداً عن الصدام والمناكفات على مواقع التواصل الاجتماعي.
تجربة الأحزاب في إدارة البلد ووقوعنا في مشاكل وأزمات متلاحقة جعلت الجميع يفكر أن يكون سياسياً أو وزيراً أو نائباً، ويكون حتى مرشحاً في أقصى الحالات، لا لرغبة بناء البلد، بقدر الحصول على الاستثمارات والصفقات في ظروف قياسية، ولعل أقصرها التحريض على الطائفية، واستغلال مشاعر الناس.
وهذه الصفات قد تحولت بالفعل إلى سمة واضحة في معالم الحياة في العراق، وهو ما قد يحصل أكثر من ذلك، أن تنمو الكراهية لدى الجميع، بسبب الاختلاف في الرأي أو في النقاش الديني أو السياسي، وهو ما قد يرغب به بعض الذين يعتاشون على تلك الخطابات المتشنجة.
لقد زحفت كل تلك القضايا وأثرت على العلاقات بين الناس، وصارت التقاطعات بين الأصدقاء أو الأقرباء بشكل واسع، بسبب الاختلاف حول موقف سياسي أو موقف يتعلق بقضية دينية، ثم تحولت التجاذبات خلال التعليقات في فيسبوك، ومن ثَم تحول إلى الشتم وبعدها بلحظات يبدأ الحظر من كلا الطرفين.
ومن الحظر الإلكتروني إلى الحظر الواقعي، صار أحدهم لا يحدث الآخر ولا يود رؤيته، وهذا صار طبيعياً نشاهده كل يوم مع الكثير من الأصدقاء والأقرباء، وأحياناً يتطور إلى أكثر من ذلك حينما تتدخل القبيلة في تلك القضايا، وتكون النتيجة وخيمة جداً.
وهكذا بسبب السياسة وفيسبوك، يمكنك أن تفقد صديقاً في عشر دقائق، وربما ستفقد عشرة أصدقاء في عشر دقائق، بمرور الزمن، فيما لو ظلَّت الأوضاع تسير إلى الهاوية، باستمرار، وابتعاد الجميع عن مظاهر الجمال التي هي جزء من حياتنا، وليس المشهد السياسي وأزماته الذي سرق منا الكثير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.