كثيراً ما تحدّث علماء النفس عن الاندهاش؛ باعتباره بداية التفكير الفلسفي المنطقي، الذي يقوم على الشك والتساؤل. إن الاندهاش هو أول طريق تحرر العقل وبداية للفكر والتطور والإبداع.
لذلك، أكاد أجزم بأن محيطنا العربي لم يعد به أشخاص لديهم القدرة على الاندهاش؛ فالمواطن العربي أصبح لديه من اللامبالاة والسلبية ما يجعله يتربع، ودون منافس، في ذيل قائمة الشعوب.
نحن نقف منذ سنوات خارج أسوار هذا العالم كمتفرجين؛ نشاهد ونبتسم وننبهر، نحن ما زلنا نحترم المنظومة التعليمية في فنلندا، ومبهورون بصناعة الروبوتات اليابانية، ومعجبون بالصناعة الألمانية، ونقدر القفزة الهائلة للصين ودول جنوب شرقي آسيا، ونتابع بشغف إنجازات الولايات المتحدة في استكشاف الفضاء.
وننظر باحترام شديد لدول الاتحاد الأوروبي التي استطاعت أن تتخطى كل العقبات وتتوحد رغم اختلاف اللغة والدين والمنظومة السياسية، مكوِّنة بذلك تكتلاً جغرافياً وسياسياً واقتصادياً قوياً، ليعيش المواطن الأوروبي أزهى وأرقى عصوره، ويتمتع بكل حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تتضمن الحق في الغذاء الكافي، وفي السكن اللائق، وفي التعليم، وفي الصحة، وفي العمل وفي الضمان الاجتماعي، وفي المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
هذا بالإضافة إلى نظام تقاعد يسمح له بحياة كريمة؛ تكريماً له لما بذله من جهد وعطاء خلال فترة عمله، ولدوره في نهضة الوطن ورفعته، ليبدأ مرحلة جديدة من مراحل الحياة.
كل هذا وغيره من إنجازات شعوب العالم التي رسمت خططها المستقبلية بإحكام على أسس منهجية علمية؛ لكي يكون لها دور بارز ورئيسي في تشكيل خريطة هذا العالم ولا تكون من المتفرجين. أما نحن، فلا نُعَد أكثر من شهود عيان على إنجازاتهم وانحدارنا.
وشيئاً فشيئاً، فقدنا القدرة على الاندهاش من أي جديد، فأصبح لدينا قناعة بأن هذه الشعوب قادرة على فعل كل شيء، كما أن لدينا القناعة التامة بأننا لا نستطيع فعل أي شيء.. سوى الفُرْجَة والتصفيق للأفضل.
وبما أنني واحد من قُدامى المتفرجين، وبينما كُنت أتابع صفحات الإنترنت كما اعتدت كل صباح مع فنجان القهوة، لفت انتباهي كلمة "تقاعد"، فتوقفت على الفور لأتابع هذا الموضوع، والذي أصبح حديث الساعة في مجتمعي هذه الأيام، فوجدته مقالاً يتحدث عن التقاعد تحت عنوان "الحياة بعد التقاعد"، لأجد نفسي أضغط على الرابط لمتابعة القراءة، وإذ بي أجدُ نفسي داخل موقع سويسري، فهَمَمْتُ بالخروج؛ فالموضوع لا يخصني، ولكن أخذني الفضول لقراءة الموضوع علّني أستفيد من تجارب هذه الدول فربما أجد ما يستحق التصفيق.
وبما أنني أقرأ موضوعاً عن التقاعد كنت أتوقع أن أشاهد في الصورة المرافقة للموضوع رجلاً عجوزاً. وبالفعل، وجدت صورة الرجل ولكن بجواره "بقرة" يعتني بها بكل لطف وحب وبشكل لافت للنظر، فأخذني الفضول أكثر لمتابعة الموضوع ومعرفة ما سر هذه البقرة!
يقول الصحفي أناند شاندراسخار في مستهل حديثه بمقاله "الحياة تبدأ بعد التقاعد": "المذبح ليس بالضرورة مكاناً للأبقار المُسنّة غير المنتجة في سويسرا، قمنا بزيارة مزرعة تضم أبقاراً تتمتع بحياتها بعد بلوغ سن التقاعد".
ويواصل شاندراسخار حديثه: "بيلا، بقرة صغيرة، تبلغ من العمر 14 عاماً، ولكنها جميلة ولديها رموش آسرة. بيلا، واحدة من 18 بقرة متقاعدة، تعيش في مزرعة هوربرس الواقعة في كانتون أرغاو شمال شرقي سويسرا.
المزرعة هي جزء من مشروع يسمى فيفا لافاكا (تحيا البقرة)، الذي يهدف إلى توفير حياة تقاعد مريحة للحيوانات غير المنتجة والمحبوبة. مزرعة هوربرس واحدة من 4 ملاجئ، تستطيع فيها أبقار، مثل بيلا، أن تقضي بقية حياتها في جو خالٍ من الإجهاد والمشقة. وتضم المزرعة أنواعاً عدة من الأبقار والثيران المتقدمة في العمر، والتي تقضي بقية عمرها في مضغ الأعشاب وليس أكثر.
يتلقى مشروع (فيفا لافاكا) الدعم من منظمة رعاية الحيوانات في سويسرا، والتي تدفع لمزرعة هوربرس مبلغ قيمته 200 فرنك سويسري (198 دولاراً) شهرياً لكل بقرة مقابل الاعتناء بها. وتعتمد المنظمة في تمويلها على تبرعات المانحين والأشخاص الراغبين في رعاية بقرة معينة. ويقوم هؤلاء الرعاة بزيارة الأبقار التي (تبنوها).
وتتلقى الحيوانات المسنّة نوعاً خاصاً من الرعاية حسب سنوات عمرها؛ لضمان تغذيتها وفق نظام صحي، يطيل عمرها. ويضم مشروع (فيفا لافاكا) 4 مزارع شمال شرقي سويسرا، وتستضيف المزارع 40 بقرة وثوراً مسنّاً، ولدى المنظمة 250 مانحاً و60 من الرعاة".
إلى هنا انتهى مقال الصحفي أناند شاندراسخار. ليتركني في حالة من الذهول؛ أنهم يتحدثون عن البقر!
ولعل السؤال الذي ما زال يتبادر إلى ذهني حتى اللحظة؛ هو: كيف استطاعت مجموعة من البقر أن تطالب بحقوقها؟ بل وتنتزعها؟! وكيف استطاع القائمون على الفكرة أن يُقنعوا الممولين والمانحين بأن مجموعة من البقر لها الحق في حياة كريمة؟!
إذا كان هذا تعاملهم مع الحيوانات، فلنا أن نتصور تعاملهم مع البشر! إنهم بالفعل يستحقون الاحترام؛ بل إنهم يستحقون الحياة.
في النهاية، أجدني مديناً بالشكر والعرفان لسويسرا، شكراً سويسرا لم تجعليني أصفق فحسب، أنتِ أعدت إليّ القدرة على الاندهاش من جديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.