بين كتاب الدرس وكتاب الأنثى “2”| الذكورة والأنوثة.. القوة والسلطة

الآن لحظة الحقيقة؛ إذ يختفي مثال الأنثى الساحرة الذي كان خيالنا يلقيه على كل مَن نهوى أو ننجذب إليه من النساء، مهما تختلف الأسماء والألوان والطبائع؛ لتحل محله ذوات متفردة مختلفة متمايزة، بعضها أكثر سحراً من ذلك المثال المجرّد المتخيّل، وبعضها دونه بمنازل متفاوتة

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/28 الساعة 04:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/28 الساعة 04:36 بتوقيت غرينتش

الآن لحظة الحقيقة؛ إذ يختفي مثال الأنثى الساحرة الذي كان خيالنا يلقيه على كل مَن نهوى أو ننجذب إليه من النساء، مهما تختلف الأسماء والألوان والطبائع؛ لتحل محله ذوات متفردة مختلفة متمايزة، بعضها أكثر سحراً من ذلك المثال المجرّد المتخيّل، وبعضها دونه بمنازل متفاوتة.
فهذه فتاة فائقة الجمال، ولكن جمالها لا يعوّض عن ضحالة تفكيرها أو تقلب مزاجها أو استكبارها أو حدّة طبعها، وهذه أخرى أقل جمالاً، ولكنها أكثر جاذبية مع ما جمع لها من جمال النفس ورقة القلب وزينة العقل.

الآن في حيز الواقع والتفاعل اليومي، تتعارف الأرواح أو تتناكر، وتتفاعل كيمياء النفوس والأمزجة أو تتنافر، تستوي في ذلك علاقات الإناث مع الذكور (العاطفية وغير العاطفية)، وعلاقات الذكور مع الذكور، وعلاقات الإناث مع الإناث، وما يخفيه الادعاء والتكلف والتظاهر، تكشفه اختبارات الأيام.

الواقع يمكن أن يكون أجمل من الخيال، ويمكن مؤكداً أن يكون أقبح، والحياة فيه مجازفة لا مفرّ منها، ولكنها تبقى أقلّ ضرراً من العيش في الأوهام، مهما تتغلف بغلالة السحر والفتون.

وهنا أيضاً سوف نكتشف أن العلاقة بين الجنسين لا تتعرف فقط بدافع الجاذبية العاطفية بين الذكر والأنثى، فإما أن يؤلف بينهما الحب، وإما أن ينصرف كل منهما عن الآخر إلى عالم جنسه.

لم لا يفضي التفاعل الاجتماعي اليومي حول شؤون الحياة إلى كل أنواع العلاقات الإنسانية من تعارف وتناكر وتدافع وتعاون، وصداقة، وإعجاب، ونفور ومودّة وتنافس مرير حول المصالح والأفكار؟ ففي نهاية المطاف، ذلك ما يجعل الأنثى ذاتاً فاعلة كذاتك، لا موضوعاً سلبياً يشتغل عليه نظرك وقلبك وعقلك ورغباتك وأهواؤك وأوهامك، وتصوغه شعراً بديعاً وترسمه لوحة رائعة، وتشيد منه أمثولة متعالية من الجمال والفتنة.

لا عزاء للأنثى في أن تكون موضوع أغنيتك أو قصيدتك أو لوحتك، بينما تختص أنت بدور المغني والشاعر والرسّام، ثم تنسى أنها تعاينك كما تعاينها، وتزنك كما تزنها، وتشيّدك في وعيها ووجدانها كما تشيّدها، وتقوّضك كما تقوّضها، وربّما غنتك كما تغنيها ورسمتك كما ترسمها.

ليست الأنثى في واقع الحال تلك الأمثولة التي يشيدها الشعراء من مادّة رغباتهم وأشواقهم، ولا الشيطان الذي يشيّده العقل الشعبي الذكوري من مادة مخاوفه وشكوكه، فكلاكما يرتدّ إلى مادة واحدة ونفس واحدة ألهمت فجورها وتقواها، وهي على الخيار في أن تزكّيها أو تدسّيها، وليس الفرق بينكما إلا ما تقتضيه رقصة الحياة التي لا تتم إلا بالزوجية.

ليست الأنثى أجمل منك إلا بقدر ما تصوّرها الذكورة الراغبة في زوجها، ولا هي أقبح منك إلا بقدر ما تصورها الذكورة المستبدة أو الخائفة أو المحبطة. وكذلك أنت منها، لا تراك أجمل منها إلا بقدر ما تصوّرك لها الأنوثة الراغبة، ولا أنت أقبح منها إلا بقدر ما تصورك لها الأنوثة المحبطة أو المقهورة، كلاكما يتعرّف بالآخر حسناً أو قبحاً، رغباً أو رهباً، ولذلك كانت العلاقة بينكما مترددة أبداً بين الحب والحرب، وليس بين الكلمتين من فرق إلا تلك الراء، ولك أن تحيل شكلها إلى انحناء السيف، أو انحناءات جسد الأنثى! ألا ترى إلى الشاعر قد وحّد بين التماع الرمح وبارق ثغر الحبيبة المتبسم، فودّ تقبيل الموت افتتاناً بأجمل ما في الحياة؟! وإلى الشاعر يتحدّث عن مقاتل العشاق بسهام العيون الفاتنة؟!

ولكن مهلاً! لا يحسبنّ أحد أن الخطاب الذكوري الذي يجعل الأنثى موضوعاً لا ذاتاً يعزز دائماً سلطة الرجل وخضوع الأنثى.

فلقد تعرف المرأة جيداً كيف تجعل ذلك مصدر قوة لها، فليكن هو الرائي وهي المرئي، هو الطالب وهي المطلوب، هو المغني وهي موضوع الأغنية، هو الراغب وهي المرغوب به، أفلا يعلم أن الراغب رهين رغبته، وأن الطالب أسير مطالبه، فهو أضعف من المطلوب والمرغوب به حين يكون هذا الأخير صاحب الإرادة في نفسه وهو الذي يملك مفاتح البذل وأقفال المنع؟

وهل ينسى الذكر أن الطالبين والمغنين والراغبين يتزاحمون حيث توجد الأنثى الرائعة، وأن عبء إثبات الأهلية يقع عليه، وأن لها سلطة المفاضلة والمحاكمة والقياس والتقويم؟ عندئذ تنقلب الأدوار، فالرجل الذات يصبح منفعلاً والمرأة الموضوع تصبح الفاعل، والحال أن الرجل ذات تطلب موضوعها، وأن المرأة ذات تملك ذلك الموضوع، فكيف لا تكون في هذا السياق هي الأقوى؟

فهل نعجب إذن حين نرى الشاعر يغني للمرأة فيجعلها القاتل دائماً بلا سيف إلا من رموش العين، ويجعل نفسه صريعها وإن كان الفارس المدجج بالسلاح!
في الجامعة سأرى مصارع العشاق بعين لا تخدعها ادعاءات الذكورة، وسأرى المرأة تمارس سلطتها بعين لا تخدعها رقة الأنوثة.

هذه أجمل فتاة في الجامعة: قوام العارضات، وبياض ناصع كاللجين، وشلال من الشعر الذي يتقلب بين السواد والشقرة كما تشاء له صاحبته، وعينان تقتلان ثم لا تحييان قتلاهما، إذا تهادت في مشيتها التوت نحوها الأعناق حتى يتوجع ليتها وأخدعها على قول الشاعر القديم، وكانت لا ترتدي غير التنورة القصيرة التي تكاد تبدي أكثر مما تخفي، ثم تتعمد أن تجلس على مقعد خشبي أمام مسرح سمير الرفاعي على حدّ ساحة الجامعة حيث يتزاحم الطلبة، ثم تضع ساقاً فوق ساق فترتفع تنورتها شبراً آخر، وتبدو منصرفة كل الانصراف عن عيون الشباب التي تكاد تخرج من محاجرها؛ وما تخفي صدورهم أعظم!

يتوقف الكلام في السياسة والفلسفة والثورة العالمية واليسار واليمين والإمبريالية، وتتأجل القضايا الوطنية إلى موعد آخر، حتى تسكن ثورة الهرمونات المتأججة التي تعطّل العقول وتفسد الآراء والأحكام.

لعلك قد أطلقت حكمك الأخلاقي حتى هذه النقطة، ومع ذلك فللرواية لاحقة هامة، فهذه الفتاة كانت إلى جانب جمالها الأخّاذ، من أكثر الطالبات تفوقاً في الجامعة، وكانت قبل ذلك من أوائل الثانوية، وهي من خلفية اجتماعية "بورجوازية" معروفة لا يساميها في ذلك إلا أقل القليل من سائر الطلبة إناثاً وذكوراً، وأهم من ذلك كله في هذا السياق أنها كانت أكثر فتيات الجامعة صدوداً عن مخالطة الشباب، فلم أرَها يوماً في صحبة أي منهم ولو لحديث عابر.
لا يغرها من الشباب وسامة ولا عبقرية ولا موهبة إبداعية ولا صيت ولا شخصيّة قياديّة ولا ادعاءات ثقافية أو سياسية، لا شيء من ذلك يستخفها، فكانت متفرّدة متوحدة مكتفية بذاتها تنضح ثقة واعتداداً وترفعاً.

فلماذا إذن كانت تستعرض فتنتها وهي أشد الطالبات عزوفاً وترفعاً عن صحبة الشباب؟
القوّة! سمّها إن شئت "القوة الناعمة"، وامتلاك القوة يغري باستعمالها واختبار تأثيرها، وليمت من شاء بغيظه، وليرجع غيره بحسراته، وطوبى لمن عرف حدّه فوقف عنده!

ولا يتعارض هذا مع كل ما قلنا في مواضع سابقة، وما يقال عن استبداد الثقافة الذكورية وحقوق المرأة المنقوصة.

ولكن الظواهر الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، لا سيما العلاقة بين الجنسين، أكثر تعقيداً وتركيباً وتنوعاً من أن تختزل في تلك الثنائيات الحدية المتفاصلة: الذكر الذات الفاعلة المتسلطة، والأنثى الموضوع السلبي الخاضع المشيّأ.

وكثيراً ما تتخفى القوة وراء الضعف، والضعف وراء القوة، والإنسان مزاج من الاثنين، وفي ظني أن القوة الخالصة المطمئنة لا تكون إلا مع الاستغناء الخالص عن الآخر، أما حين تتوجه بالرغبة والحاجة، كما هي في العادة، فإنها تبقى هشَّة وإن بدت صلبة متحكمة. ولقد يصح القول هنا إن المتحكم بالآخر محكوم بحاجته إليه ورغبته فيه، ولذا قد تزداد السلطة عنفاً مع تنامي الخوف من تآكل السيطرة ومعها فرص إشباع الرغبات والحاجات المستبدة التي لا تتحقق إلا بالآخر ومعه، فيكون استبداد السلطة هنا نتاج استبداد الرغبة بصاحب السلطة، فهو مستبَدّ به: الحب والحرب من جديد.

وفي أحيان أخرى كثيرة، لا سيما في البيئة المحافظة، قد لا يكون الخوف من تبدد فرص إشباع الرغبات وتحصيل الحاجات وقضاء الأوطار دافع تشديد السلطة والسيطرة على الآخر، إنما هو الضد من ذلك تماماً: الخوف من استبداد الرغبة نفسها ومن مخاطر مآلاتها حين تصطدم بروادع الدين والقيم والرقابة الاجتماعية، وبدلاً من أن يتحمل الذكر عبء التحكم بنفسه ورغباته، يتجه إلى تغييب موضوع الرغبة (الأنثى) وحجبها وراء جُدر مشيدة ليحمي نفسه منها! فهي سلطة دفاعية يحكمها الخوف!

وعلى ذلك، فإن السلطة الذكورية تتغذى بالخوف من الشيء ونقيضه: الخوف على فرص الرغبة، والخوف منها!

هل يبدو من هذا كله أن الذكورة قوة خالصة والأنوثة خضوع خالص؟! لعلنا نحتاج إلى أن نفرق بين "القوة" و"السلطة"، فالسلطة وإن بدت أكثر عنفاً وفجاجة واستعلاء، فإنها أكثر افتقاراً إلى موضوعها الذي تشتغل عليه، ما يجعلها تتوجه بالمخاوف والشعور بالتهديد. وكل ذلك يخفي قدراً من الضعف والهشاشة، أما القوة فأكثر استقلالاً واكتفاءً وثباتاً ورسوخاً وثقة وترفاً واطمئناناً، وأقل توجهاً بالمخاوف والشعور بالتهديد. ولذا فإنها لا تستعرض نفسها بصورة فجة، وإنما تعمل بطرق غير منظورة وتتخفى بالصور الجميلة والعقلانية والترشيد؛ إذ تمارس إكراهاتها وتحكمها، وهذا هو الفرق بين نظم السيطرة والتحكم في المجتمعات الغربية الديمقراطية الحديثة، ونظم السيطرة في المجتمعات التقليدية الدكتاتورية.

فالأولى خفية متلطفة ذات وجه إنساني، ومع ذلك فهي أكثر فاعلية وقوة وثباتاً ورسوخاً، أما الثانية فهي فجة فظة منظورة مباشرة عنيفة، لا تفتأ تستعرض أذرعها وأسلحتها القمعية لتردع أي محاولة لتحديها، ومع ذلك فهي أكثر هشاشة وأقل تمكناً ورسوخاً وقدرة على السيطرة على العقول والأفئدة وتوجيهها.

وينطبق هذا الفرق على طبيعة الهيمنة الذكورية في المجتمعين الغربي والشرقي؛ إذ تبدو في الغرب أقل فظاظة وأكثر تلطفاً وخفاءً، وقد يصح القول إن الذكورة هناك أقل تسلطاً في الظاهر وأكثر قوة في الباطن؛ لأنها لا تتغذى بالمخاوف من تبدد فرص الرغبة المتاحة في مجتمع الحرية الجنسية، ولا بالمخاوف من استبداد الرغبة ومخاطرها على الروح والقيم الدينية، فهي أكثر طمأنينة واسترخاءً، ولكن يخطئ من يظن أنها قد تلاشت وفقدت قدرتها على التحكم والسيطرة، بل يخيل إليَّ أن خطاب الحرية الجنسية قد أسهمت الذكورة بقدر عظيم في تشييده لتضمن المزيد من فرص إشباع الرغبة دون قيود أو اشتراطات من الجنس الآخر، ودون أن تضطر الذكورة إلى استعراض سلطتها الفجة.

ففي تلك المجتمعات يمارس خطاب الحرية الجنسية ضغوطاً اجتماعية ونفسية قاهرة على الفتيات بصورة خاصة منذ سن مبكرة كي ينخرطن في النشاط الجنسي وإلا لحقت بالواحدة منهن وصمة اجتماعية تهدد عضويتها في الجماعة.

وبينما يتمتع الذكر ويتفاخر بغزواته، يكون على الأنثى أن تتحمل وحدها ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة كالحمل المبكر ورعاية الطفل، وهي نفسها لا تزال في عمر الطفولة. توصم المراهقة إذا امتنعت عن النشاط الجنسي، وتوصم إذ ينتهي بها الأمر إلى الحمل والولادة، والذكر حر طليق خال من المسؤولية.

وقد يعترض البعض بأن مجمل كلامنا السابق يفترض أن الذكر يختص بالرغبة دون الأنثى، والحال أن الفرق يكمن في طبيعة الرغبة ودورها وغاياتها. فالذكر أكثر اندفاعاً وراء رغبته وارتهاناً لها، وقد يطلب الإشباع في ذاته، فلا تقترن الرغبة دائماً بالعاطفة والمودة والسكن، أما الأنثى فتطلب الرجل كلاً واحداً، وذاتاً إنسانية متكاملة، ولذلك تقترن الرغبة عندها بالحب والعاطفة في معظم الأحيان.

من الذي يتحدث في الغالب عن خوفه من الفتنة ورغبته في الزواج لكي يعصم نفسه، ويستخدم ذلك وسيلة للضغط على الآباء كي يبحثوا له عن زوجة، حتى قبل أن يستكمل متطلبات الحياة الزوجية؟ ألا يمكن القول إن الذكر في كثير من الأحيان يرغب في المرأة لأنه يرغب في الجنس، وأن الأنثى في المقابل ترغب في الجنس لأنها ترغب في الرجل؟

لعله لهذا السبب نزعت الثقافة الذكورية دائماً إلى تجريد الأنثى والكلام عنها بوصفها طبيعة وماهية مطلقة ذات جاذبية قاتلة، أو هي مزاج من الأضداد: نار تستضيء بها وتستدفئ بها وقد تحترق بها، أو سحابة تلوح في الأفق فلا تدري أهي عارض ممطرك أم ريح فيها عذاب شديد! ولذلك لا يزال الذكر الحائر يتساءل منذ دهور: ماذا تريد المرأة؟ ثم اختزل حيرته بالقول: لا عيش لنا معهن، ولا عيش لنا بدونهن!

أما الأنثى في المقابل فتنزع إلى الحديث عن ذكر مخصوص بعينه، عن ذات مفردة لا ماهية وجوهر.

*****

ألا يؤكد مجمل كلامنا السابق أن العلاقات الاجتماعية والإنسانية بعامة، والعلاقة بين الجنسين بخاصة، أكثر تعقيداً وتركيباً وتنوعاً والتباساً من أن تختزل في ثنائيات القوة والضعف، والذات والموضوع، والهيمنة والخضوع؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد