أعاني من الطبقية

أنا من بين هؤلاء، لا أستطيع تحديد ذلك فعلاً؛ لأنني لا أنظر بنفسي بشكل طبقي أبداً، ولا أقوم بأسلوب مبتذل مع أي كان، أعامل البشر كما رباني أبي وأمي، ولكني عندما راقبت نفسي وأنا أعامل الناس حولي وجدت أنني طبقي من الطراز الرفيع!

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/28 الساعة 03:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/28 الساعة 03:48 بتوقيت غرينتش

هنا في مصر، هذه الدولة تعلمك الطبقية على أصولها، نعم ولأسبابٍ كثيرة، غير واردة في البلد الذي ولدت ونشأت به، أو لم ألاحظها جيداً هناك في بلدي، في ذلك الجزء الصغير المقطوع من الوطن المسمى بقطاع غزة، إن أصابتنا مصيبة، وهذا ما لا يتوقف عن الحدوث، فكلنا نتأثر بهذا، إن لم يصِبنا الضرر مباشرة، فنحن نشعر بالأسى للضرر الذي لحق بشخص آخر، فمثلاً، احتمالية سقوط صاروخ على بيت شخص ما فقير هي نفس احتمالية سقوط الصاروخ على بيت شخص ما غني، وخسارة البيت وربما الأهل واردة بنفس الاحتمالية، بل ربما احتمالية سقوط ضحايا من عائلة ما غنية أكبر من احتمالية سقوط ضحايا لعائلة فقيرة، كيف هذا؟!

لأن أغلب العائلات الأعلى بشكل ما طبقي، عائلات كبيرة وذات حسب ونسب، وعدد أفرادها ليس بقليل، وطبعاً هذا أيضاً يجعلها من مُلَّاك الأراضي والمنازل في أماكن مختلفة في القطاع، فاحتمالية التضرر واردة حتماً لا محالة، بجانب هذا فنحن في هذه البقعة من الوطن المتقطع، لا توجد اختلافات عظيمة في مستويات التعليم، فكلنا على الأغلب ندرس في نفس المدارس، وكلنا أيضاً نذهب لنفس الجامعات، فنحن بشكل أو بآخر نلتقي في مجالات مختلفة في قطاع التعليم والصحة، ونتشارك في أماكن ومناطق السكن،

وكلنا نأكل الحمص والفول والفلافل بنفس السعر من نفس المطاعم، وكلنا نأكل الشاورما أيضاً بنفس السعر أو بفارق بسيط، وربما نتشارك أماكن الترفيه على الأغلب لندرتها، ولأننا نعيش في حدود ضيقة فلا مفر من أن نلتصق ببعضنا الآخر، وما نعايشه من ظروف يصنع حتمية أن أن نكن ملتحمين في هذه النقطة، الفجوة الوحيدة التي لا تكُف عن إثبات الحضور هي الفجوة بين المواطن واللاجئ (للأسف)، ولكن بشكل أو بآخر فنحن نسيج مجتمعي لا يتعلم الطبقية بشكل لاذع وصارخ.

هنا في مصر، الدولة الواسعة المترامية، عديدة الأشكال والأنماط والمستويات، الطبقية موجودةٌ في كل شيء، بدءاً من البيت الذي تولد فيه، في الحي الذي تقطنه عائلتك، بالمدرسة التي سوف تلتحق بها، حتى تصل للجامعة التي تختارها بها، مروراً بمن تقابل في طفولتك وشبابك، وكيف تعيش، وما المواصلات التي تستعملها، والأكل الذي تأكله، حتى يأتي يومُ وتصل فيه لما يمكن أن تصله أو تصنعه ليغير حياتك وينقلك لعالم آخر من طبقتك إلى طبقة أخرى، ولن تستطيع التعايش معهم بسهولة أيضاً فتحتاج لمجهود جبار؛

لكي تتغير حسب ما تفرضه الطبقة الجديدة التي تعيش فيها من أسلوب وعادات وتقاليد و(بريستيج)، وكأنك تخرج من الشرق الأوسط لتعيش في أوروبا أو أميركا مثلاً، وأيضاً إن كنت من المرفهين فلن يصح لك أن تحتك بمن يسكنون الجحور ولا من يسكنون العشوائيات والعمارات السكنية الضيقة، ولا حتى من يسكنون في بيت مستقل بسيط في منطقة متوسطة ما، حتى تنتبه لهؤلاء الأشخاص في مجال العمل أو تفرض عليك الظروف بشكل أو بآخر أن تتعامل معهم، وعلى الأغلب هذا ليس واجب الحدوث.

أنا من بين هؤلاء، لا أستطيع تحديد ذلك فعلاً؛ لأنني لا أنظر بنفسي بشكل طبقي أبداً، ولا أقوم بأسلوب مبتذل مع أي كان، أعامل البشر كما رباني أبي وأمي، ولكني عندما راقبت نفسي وأنا أعامل الناس حولي وجدت أنني طبقي من الطراز الرفيع!

نعم.. هذا حصل فعلاً، أنا أضيق من التعامل مع الأغنياء المرفهين، نظرتي قاسية وحاكمة ومجردة من العقلانية، أحكم عليهم بالغباء والسطحية من النظرة الأولى، لا أسيطر على شعوري بالتقزز منهم، مستنداً إلى سبب اخترعته من نفسي لنفسي، هم السبب بأن يكون الفقراء فقراء، وهم يقصدون الظهور بهذا الشكل، لا أعلم من أين أتيت بهذه القاعدة، أياً كانت، فأنا أمارس ذكائي المفرط وغروري المبهر مع هؤلاء، وبعد أن أمل مللاً شديداً من حواراتهم المقيتة كما أعتبرها، فالحديث عن (ماركة) اللبس الفلانية، أو الرحلة المكلفة التي قام بها أحدهم في مكان رائع والتي لم يرَ فيها سوى توافه الأشياء، أو الكلام عن فستان راقصة أو ممثلة، أو قصة شعر مغنٍّ أو ممثل،

ثم صراع سوق السيارات، ومميزات آخر آيفون، ويا سلام لو كان الحديث حول أنواع المخدرات الثمينة المختلفة، وما شابه ذلك من الحوارات التي لا تعنيني بشيء، وإن كانت تعنيني نوعاً ما فليس بذلك السياق، أحياناً أصنع أو أنتهز فرصة ما لكي أحوارهم ليس لكي أبادلهم الكلام في الواقع، بل لأوقعهم في شر أفكارهم وأعمالهم (كما أعتقد)، ثم لا أتهاون في ضرب طبول المعارضة معهم في أي كبيرة وصغيرة؛ لكي أصل لنتيجة واضحة هي أنني أريد أن أتهمهم بالعنصرية والسطحية والغباء، أريد سبباً ومبرراً لنفسي؛ لكي أهرب من هؤلاء الذين سوف يذيقونني مرارة فاتورة ضخمة مكلفة بعد المكوث معهم في قهوتهم المحببة لهم التي قضيت فيها وقتاً ليس ثميناً أبداً.

ولكن بعد مراقبتي أكثر وأكثر في الوجه المقابل، فأنا لا أحصل على وقت مثمر أيضاً عندما أجالس من أبادلهم التعاطف والحب والقرب غير المفهوم، البسطاء، هؤلاء من أبذل مجهوداً من نوع آخر في استعمال ذكائي المفرط في جعلهم يشعرون بالراحة لجلوسي معهم، دافعاً إياهم لكي يحادثوني في أي شيء يريدون، مبتسماً لأي مما يقولون، حتى لو قاموا بسرد (الخناقة) الكبيرة التي حصلت في بلدهم في الصعيد أو الحي العشوائي الفلاني، بسبب الماعز التي أزعجت زوجة شخص ما بموائها الذي لا يتوقف مثلاً، أو أن هناك دماء سالت على الأرض؛ لأن أحد سائقي التوك توك الصغار اصطدم بعربة بائع البطاطا الحلوة في نفس الحي، تاركين السبب وتفاهته، ويكثرون من تفصيلات اللكمة أو (الشالوت) أو الطعنة التي تشبه اللكمات والطعنات في مسلسل (الأسطورة)، مضيفين كم كان رهيباً صراخ أُم أحدهم أو زوجة أحدهم.

ولكن لماذا لا ألقي اللوم على البسطاء لذكرهم القرف الذي يذكرون؟ لأنني أؤمن بأنهم لم يحصلوا على اهتمام واجب في قطاع التعليم أو حتى فرصة لمراكز معينة تهتم بالتثقيف، ولا حتى في مجال الرعاية الاجتماعية، ولا الصحة الجنسية أو الإنجابية، وأرى أن الدولة تاركة هؤلاء البسطاء يتكاثرون دون الالتفات إلى أنهم آفة ثقافية تلتهم الدولة وشكلها وثقافتها وتاريخها يوماً بعد يوم، وسوف ينقضون على الأغنياء يوماً ما، الكثرة تغلب كل شيء، حتى الرقي.

قد أكون مخطئاً في كل ما أقول، ولكن قلبي مع البسطاء، ليس فقط تعاطفاً معهم، بل بالطبع لأنني أشعر بأنني وهَج من النور في تلك المساحة، الغرور قاتل أعزائي، ومحرك مهم، أنا أتنازل عن عمق الحوار لكي أشعر بالراحة النفسية، هؤلاء لا يراقبون ملبسي ولا ينظرون إليَّ وأنا أتناول كأس القهوة وأدلق نصفها على ملابسي، بل ويستمعون بإسهاب واهتمام عندما أعلق على شيء ما، ولا يرفضون أي نوع من الحوارات التي يمكن أن أطرحها عليهم؛ لأنهم منذ اللحظة الأولى بمنتهى البساطة اعتبرونني مختلفاً عنهم بعكس ما قد تمليه مشاعر الأغنياء عليهم، فهم لا يطيقون أن يشعر أحدهم بأنه مختلف، ولا يحبون أن يشعروه بذلك، حتى لو كان من جنسية وثقافة أخرى، حتى لو كان فناناً في نفسه أو حتى لو كان يعاني من التوحد، فهم يرون أنه أياً كان فلن يأخد حيزاً مختلفاً، بل من الأفضل أن يتم وضعه في الزاوية لكي لا يلتفت أحد إليه.

لم آتِ على ذكر الطبقة المتوسطة وشبابها، رغم أنهم كثيرون، ومنتشرون، رأيتهم يملأون (وسط البلد)، محيرين لا يختفون، هم هناك كل يوم، طوال الوقت، لا أعلم ماذا يفعلون وكيف يعيشون، لكن هم ببساطة إما يوضعون في قالب (نحن لا نعني شيئاً)، نحن كما نحن لن نتغير، أو يتشكلون لغرضم ما ويبالغون في الزيف؛ لكي يظهروا بمظهر ليس مظهرهم، ويبحثوا عن اهتمامات قد تكون صعبة عليهم ملاحقتها لاحقاً فقط لكي يجاروا من يرغبون في مجاراتهم من الطبقات الأعلى، وهؤلاء الوسطيون يفضلون مجارات الأجانب والزوار، وفي الحقيقة هم قادرون على تسليتهم، وحلبهم، ولكنهم يربكونني وأشعر أنني يجب عليَّ الحذر من التعالم معهم؛ لأنهم قد يمتازون بالذكاء، ولكنه ذكاء خبيث قد يتمكن منّي، وأنا أهاب هذا النوع من الناس هنا.

كل هذه الهواجس التي ذكرتُ تؤكد أنني أعاني من الطبقية، وبشكل واضح ومستقر في ذاتي حتى الآن، وتثبت أيضاً أنني أصدر الأحكام مثلي مثل غيري، وأدع أنانيتي تختار من أجالس، والتي ساهمت ولا زالت تساهم في صعوبة صنع نسيج معين لفريق عمل أريده اليوم.

في الحقيقة هناك استنتاج أخير أريد البوح به، مروراً بكل ما ذكرت، فإن مقابلة شخص واحد على حدة لها سياق مختلف، ليس مختلفاً جداً، ولكن تعصبي وطبقيتي ونظرتي للأمور تكون أقل حدة، ولكن أصل لنفس النتيجة، فأنا أجد أن مرافقة البسطاء أكثر ثراءً من مرافقة غيرهم، وربما فقط لأنني أجير الأمور كما أريد، وأحياناً يبهرونني بأن أقابل قراء ومثقفين وأصحاب تجارب لم أتخيل أن أجدها عندهم.
بعد كل هذا.. مَن هناك؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد