يعتبر أسامة، كغيره من أغلبية الشباب العربي العادي، شاباً طموحاً يحلم فور إنهاء دراسته الجامعية بالحصول على وظيفة تقيه شرَّ سؤال والديه مصروفه اليومي.
عانى الأمرَّين مع البطالة بعدما تخرج في كلية الاقتصاد، لكنه حصل على وظيفة حكومية في سن الخامسة والعشرين.
لقد كان محظوظاً جداً؛ لكونه من القلائل المنعم عليهم بتلك الوظيفة؛ حيث إن الأكثرية من الناجحين هم من أبناء الطبقة الميسورة، منهم من لم يجتز مباراة الحصول على الوظيفة أصلاً.
لسوء حظه، سيتوجب عليه الانتقال لمدينة أخرى غير مدينته؛ لكي يعمل هناك، يجب عليه أن يتعود الآن على فراق والديه.
قرر أسامة، الشاب الطموح المفعم بالحيوية، (قرر) الزواج قبل بلوغه سن الثلاثين، اكترى شقة صغيرة في إحدى عمارات مركز المدينة غير بعيد عن مقر عمله، كان راتبه الشهري جيداً.
بمرور الأيام، توطدت علاقته مع أحد زملاء العمل، كان رفيقه وصديقه الذي يقضي معه بعض أوقات فراغه، إلا أنه قرر السكن وحيداً منذ البداية.
يذهب أسامة في عطلة نهاية الأسبوع لزيارة والديه، كانت والدته كثيراً ما توصيه باختيار الرفقة الصالحة والبحث عن رفيقة لحياته تؤنسه في وحدته.
دأب أسامة على الذهاب رفقة زميل عمله إلى مقهى الحي كل مساء، يتجاذبان أطراف الحديث حول مختلف المواضيع والأحداث، لكن مع مرور الأيام، صار زميله يميل أكثر إلى الصمت والتحديق في هاتفه الذكي أكثر من الحديث إلى أسامة.
غاظ هذا الأمر أسامة كثيراً، فسأله عما يشغل باله ويذهب بعقله بعيداً، أخبره صديقه أن ذلك بسبب الفيسبوك (كان هذا الموقع الافتراضي في بداية أوجه آنذاك)، لم يكترث أسامة بادئ الأمر، لكن مع مرور الأيام، صار جل حديث صديقه لا يدور إلا حول هذا الموقع الافتراضي العجيب، لاحظ نفس الشيء في زملاء عمله الآخرين، ذهب أسامة رفقة صديقه إلى نادي الإنترنت القريب من سكناه بعد نهاية دوامهما، طلب أسامة من صديقه أن يساعده في التعرف على موقع الحياة الافتراضية العجيب هذا، ولم يدخر صديقه أدنى جهد لمساعدته للتعرف على ذلك العالم.
توالت الأيام وصار ارتياد مقهى الإنترنت واجباً يومياً لدى أسامة، حتى إنه لم يعد يلتقي بصديقه كثيراً كما في السابق، لاحظ أنه ينفق الكثير من وقته وماله في نادي الإنترنت، فقرر أن يشتري حاسوباً محمولاً وأن يشترك في خدمة الإنترنت ذات الدفع الشهري، صار يقضي الليالي ساهراً في هذا الموقع العجيب، وهو الذي كان يعتبر النوم في الوقت أمراً مقدساً حتى لا تفوته صلاة الفجر في وقتها.
صار يتحدث مع هذه وتلك، مع زميلات العمل وغيرهن، يلتقي بهن بعد ذلك هنا وهناك، لم يعد يرى صديقه إلا لماماً، حتى أهله وأقاربه لم تعد لهم أهمية في حياته، صار الفيسبوك كل حياته، حتى العمل لم يعد مجدّاً فيه كما كان في البداية، يذهب إلى مكتبه وهو يشعر بدوار رهيب في رأسه تقريباً كل يوم، حتى إنه صار يتأخر كثيراً وينال ما يستحق من التوبيخ من لدن رئيسه، يتمنى نهاية الدوام سريعاً كي يعود إلى حاسوبه.
اشترى كذلك هاتفاً ذكياً، يسترق من خلاله النظر إلى حسابه الفيسبوكي بين الفينة والأخرى في مقر عمله؛ ليرى مَن أرسل إليه رسالة أو تفاعل مع "الستاتو" الأخير الذي كتبه قبل نومه.
صار الفيسبوك محور حياته، حتى في حالات مرضه لا يصبر عنه، لا بد له من الاطلاع عليه ولو على فراش المرض.
مرت عشرون سنة بشكل سريع وفظيع جداً دون أن يحس، لم ينَل خلالها لا ترقية ولا علاوة ولا تقديراً ولا أي شيء، انتابته نوبة عصبية شديدة كالتي تنتاب مدمني المخدرات عندما لا تتوافر لديهم.
تذكر أنه لم يتزوج!
في اليوم الموالي، لم يذهب للعمل، قرر البقاء في المنزل، أطفأ هاتفه وبقي مستلقياً على سريره ينظر إلى سقف غرفته متأملاً حياته وما آلت إليه، لاحظ أنه وحيد جداً رغم آلاف الصداقات الافتراضية التي لديه، لاحظ أنه كان يطارد الوهم منذ سنوات طويلة.
كل هذا بسبب الفيسبوك..
قرر في لحظة انفعال شديد أن ينهي مأساته، قرر إقفال حسابه الفيسبوكي إلى الأبد والعودة إلى الحياة الطبيعية منذ تلك اللحظة، قرر أن يستفيق من سباته العميق قبل أن يفوت الأوان، حان الوقت كي يبدأ في البحث عن شريكة لحياته وأم لأولاده.
نهض بصعوبة من فراشه واندفع متثاقلاً إلى حاسوبه، أراد أن يلقي نظرة الوداع على حسابه الفيسبوكي قبل اقفاله إلى الأبد، في تلك اللحظة بالذات، وصلته رسالة من صديقة قديمة تسأله عن أحواله وسبب غيابه الطويل، أجاب تلك الرسالة وبدأ معها الحوار من جديد، ثم نسي نفسه.. من جديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.