قبل عشر سنوات من الآن تقريباً، تعرفت عن طريق أحد الأصدقاء الذي يقطن بأوروبا عن موقع جديد، يمكنك من الولوج لعالم آخر، يفتح لك شهية التواصل والتعرف على شخصيات من العالم بأكمله، وتسبح عبر بواباته العنكبوتية إلى أبعد من الخيال.. لم أكن أعلم أن صاحب هذا الموقع سيصبح من بين أغنى الأشخاص في العالم؛ حيث يُقدر إجمالي ثروة زوكربيرغ حالياً بـ53.8 مليار دولار، وفقاً لتصنيف مجلة "فوربس" لمليارديرات العالم.
لم يكن يخطر ببالي أيضاً أنه بعد ما أصبح الفيسبوك من بين وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر استعمالاً، وتحول استعمالي له من الشخصي إلى المهني، عبر اهتمامي بمجال التواصل الرقمي وتدبير مواقع التواصل الاجتماعي، لم يخطر ببالي أنه ستتاح لي فرصة لزيارة مملكة زوكربيرغ، أكبر مساحة عمل في العالم، التي تضم حوالي 2800 موظف، هذه المملكة المفتوحة التي تتسم بالبساطة، وخصوصاً البعد التام عن الرسمية، مملكة لواحدة من شركات وادي السيليكون الأكثر أهمية.
قضيت الليلة التي تسبقها كأنني في حلم، أحاول أن أنسج بعض الأفكار حول المملكة التي غيرت مجرى العالم، خصوصاً أنني من الشباب الذين عاشوا مرحلة الربيع العربي، والتي تميزت باستعمال الشبكات الاجتماعية من أجل التغيير الاجتماعي، ثورات عربية، وحراك اجتماعي انطلق من صفحات ناشطين بالموقع الأزرق، هاشتاغات، إعجابات، نشر، وتدوينات، كانت كافية لتسقط أنظمة، وتغير حكومات، وتصنع نجوماً من نوع خاص، ثوار رقميين، إن صح التعبير.
نزلت من السيارة التي كانت تقلني إلى مدخل مملكة زوكيربورغ، اتجهنا نحو المدخل العام للشركة، وكان في استقبالنا موظفة عن فيسبوك، رحبت بالزائرين، وقالت بابتسامة خافتة: أهلاً بكم في مملكة الفيسبوك.. سرعان ما استرجعت أنفاسي، خصوصاً أنني أعيش تجربة شخصية ومهنية رائعة، استحوذت على عاطفتي، وجعلتني أقتنع أن كل شيء ممكن، يكفي أن تحلم.. وكل شيء سيأتي في وقته.
الشغف أولاً:
لا يختلف اثنان في أن الشغف هو وقود تحقيق أي حلم، بالمثابرة والجدية والعمل المستمر، لكن في العموم تبقى هذه نظريات في بلادنا العربية، عكس ما حدثتنا به مسؤولة قسم التواصل بالمملكة؛ حيث أكدت لنا أن اختيار العاملين بالشركة ينبني أولاً على الشغف، قدرة هذا الموظف على أن ينسج علاقة حب مع عمله؛ لأن الاستمرارية والإبداع مرتبطان بالشغف، ثم يأتي بعد ذلك المهارة؛ حيث أكدت لنا أن المعلومة اليوم أصبحت متاحة ومتوافرة، خصوصاً مع ظهور الإنترنت، لكن تبقى المهارة وكيفية تحويل المعلومة إلى خطوات عمل فعالة من أجل الوصول إلى نتيجة معينة، مهما اختلفت مجالات التخصص.
ذكرتني حينها بإحدى الحكم التي تقول: أحب ما تفعل؛ لتفعل ما تحب.
فضاء مفتوح:
دخلنا إلى جزء صغير من المكان المخصص للموظفين، يلفت انتباهك أنها مؤسسة بدون جدران، مكاتب مفتوحة على بعضها، ألوان ونباتات وأماكن للراحة، مكاتب بالكاد تحمل شخصاً واحداً، محاولة جد موفقة لتغيير منطق وطبيعة مكان العمل، يخيل لك أحياناً أنك في منزلك، رفقة مجموعة من الأصدقاء، تعملون على مشروع تطوعي أو شيء شخصي، لا جدران ولا حواجز بين المكاتب، فأحيانا إغلاق باب مكتبك عليك يمكن أن يشكل عائقاً في التواصل، كما تقول، لا يوجد في مملكة الفيسبوك مكاتب أرقى من أخرى خاصة بموظفي الدرجة الأولى، كما نجد في بعض الشركات في العالم، إن لم نقل جلها؛ حيث يبقى المدير أو الموظف المسؤول منعزلاً عن بقية المستخدمين، يعيش عالماً خاصاً به.
بادرت إلى السؤال حول سبب اعتماد هذا التوجه، فأجابتني أن هذه الهندسة الجديدة للمكاتب أصبحت تغزو الولايات المتحدة الأميركية عموماً، لما أبانت عن تحول إيجابي في مردودية المستخدمين؛ حيث يتحول مكان العمل من شيء مقرف تحاول الهرب منه إلى مكان جذاب، مريح، حينها تتحول الرغبة في الهروب إلى رغبة في الرجوع.
استثمار من نوع آخر:
غالباً يكون الاستثمار في الشركات الكبرى متعلقاً بالزبائن، هذا من أولوياتنا، تقديم خدمة جيدة بطريقة مبدعة، لكن الضامن لاستمرار هذه العملية هو استثمار أكبر في المستخدمين، توفير الأجواء المناسبة للاشتغال والامتيازات الكافية والأجرة المثالية؛ لكي نغطي كافة احتياجات الموظف، استرسلت المكلفة بجولتنا تقول؛ حيث داخل الشركة، يمكن أن تلاحظوا أنه وفرنا أبسط الأشياء من مطاعم ومقاهٍ وصالات للألعاب والتدليك، أماكن خاصة بالرياضة، محلات استجمام وراحة، هذا يطور من مردودية الموظف ويجعله يفخر بانتمائه لهذه المملكة الكبيرة.
غالباً ما يعتقد البعض أن وراء هذه المملكة العملاقة حواسيب وأنظمة إلكترونية، كما حدثني المسؤول السابق عن شركة فيسبوك بشمال أفريقيا والشرق الأوسط، لكن شركة فيسبوك لم تكن لتنجح بالجانب التقني فقط، فوراء هذا النجاح الباهر استراتيجية عمل كبيرة من طرف قيادة هذه الشركة، لكن التزام وعمل متواصل وفعال وكفاءة مهنية كبيرة ومهارات إبداعية تجعل من هذه الشركة حلماً للملايين من الطلبة والباحثين عن فضاء كهذا للعمل، كانت زيارة تعلمت فيها الكثير، بدءاً من أن فكرة بسيطة يمكن أن تغير مجرى العالم وتدر المليارات من الدولارات، ختاماً بأن الاستثمار الكبير الذي يتوجب على أي شركة أن تقوم به لكي تنجح أكثر، هو استثمار في العنصر البشري، كل هذا تعلمته حينما زرت مملكة الفيسبوك!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.