الوازع الأخلاقي الداخلي

لقد صدمت من هذا المجتمع، واكتشفت أن البشر الذين نتعامل معهم يومياً مهما اختلفت أعراقهم وأجناسهم عندهم استعداد لارتكاب أفعال شنيعة لو أتيحت لهم الفرصة طالما ليس عندهم وازع أخلاقي داخلي، وهذا ما يجعلنا نقول إن السلطة بحاجة إلى القوة دائماً؛ لتعزيز وجودها، وإن الحرية لا يمكن أن تمنح بصورة مطلقة دون رادع أو قانون أو نظام أو وازع أخلاقي داخلي

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/20 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/20 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش

في سنة 1974 قامت فتاة روسية اسمها "مارينا إيراموفيك" بعمل تجربة أخلاقية اجتماعية في منتهى الغرابة بهدف التعرف على سلوكيات البشر عندما تتاح لهم فرصة الحرية بلا شروط ولا قيود ولا ضوابط أخلاقية، وكانت تجربتها تتمثل في أن تقف لمدة 6 ساعات متواصلة كأنها تمثال، وأن تضع بجانبها طاولة عليها سكين وسلاسل ومسدس وورود وأقلام وأشياء كثيرة، ووضعت لافتة كتبت عليها: "افعلوا بي ما تريدون".

ووقفت صامتة كالصنم وكان معها فريق للمتابعة والتصوير من بعيد، وبدأت التجربة وتأملها الجماهير في الساعة الأولى بشكل حضاري وراقٍ بشكل أعجبها جداً لم تكن تتوقعه، كما قالت فيما بعد، ووقفوا أمامها متأملين وتعمد بعضهم تكرار المرور من نفس المكان للمتابعة ولحاجة في نفس يعقوب، ثم حصل ما لم تكن تتخيله على الإطلاق.

وبدأ البعض في الممارسات التي لم تكن تتوقعها "مارينا" أبداً، وعندما وجد الجمهور أنها لا تقوم بأية ردة فعل أبداً تجاه ممارساتهم ازدادت حدة الممارسات اللاأخلاقية.

وتطورت إلى أشكال عدوانية، فقام الجمهور بتمزيق ملابسها وتعريتها بشكل شبه كامل، وبعضهم خدشها بالسكين، وبعضهم كتب على جسدها بالأقلام، وبعضهم طعنها بالقلم بقسوة، ومنهم من وضع السلاسل على رقبتها، ووضعوا عليها الورود بشكل عنيف؛ حيث ألصقوا أشواك الورود ما بين جسدها وما بين السلاسل وجرحوا جسدها بأشواك الورود، وبعضهم حاول طعنها بالسكين، وأحدهم سحب المسدس وأراد أن يطلق النار على رأسها، لولا تدخل أحد المتابعين للتجربة، والبعض تحرش بها، وتجمهر حولها الناس بشكل لا أخلاقي وعدواني، ولا إنساني وبمنتهى الشماتة وهم لا يعرفونها ولا يعرفون هدفها من كل ما يحصل.

وفجأة وبعد ست ساعات من الوقوف والصمود على كل تلك الممارسات تحركت لتلملم نفسها، فهرب الجمهور بشكل غير متوقع أيضاً، وكأنها عقدة الذنب والخجل من النفس، وكتبت "مارينا" ملاحظتها عن هذه التجربة وهي ملاحظة خطيرة جداً؛ حيث قالت:

"لقد صدمت من هذا المجتمع، واكتشفت أن البشر الذين نتعامل معهم يومياً مهما اختلفت أعراقهم وأجناسهم عندهم استعداد لارتكاب أفعال شنيعة لو أتيحت لهم الفرصة طالما ليس عندهم وازع أخلاقي داخلي، وهذا ما يجعلنا نقول إن السلطة بحاجة إلى القوة دائماً؛ لتعزيز وجودها، وإن الحرية لا يمكن أن تمنح بصورة مطلقة دون رادع أو قانون أو نظام أو وازع أخلاقي داخلي".

تعليقي أنها تجربة فريدة من نوعها وغريبة جداً، لكنها مفيدة كمعيار لتقييم أخلاق المجتمعات، وما يمكنني أن أستخلصه من كل تلك التجربة هو كلمة "وازع أخلاقي داخلي"، ولو طلبوا منا أن نقوم بتقييم هذه التجربة فسوف نستهجن هذه السلوكيات وهذه التصرفات وكأننا لا تخطئ أبداً، وكأننا أنبياء وقِديسون، وكلنا سيهاجم ذلك المجتمع؛ لأن تصرفاته مشينة، وكأننا في مجتمعاتنا بلغنا درجة الكمال المطلق.. كثيرون أولئك الذين يعتقدون أنهم معصومون ولا يخطئون أبداً، وأن كلامهم حق مطلق لا يقبل الجدل، بل ويتفننون في انتقاد كل شيء حولنا.

لماذا كل واحد منا يعتبر نفسه مقياساً للصلاح والتقوى ولا يرى عيوبه؟ لماذا لا نعترف بأخطائنا ولا نعترف أننا لا نمتلك الكمال الأخلاقي المطلق؟ لماذا لا نعترف أن الكمال لله تعالى فقط؟

إن أحد أخطر أسباب مشاكلنا أن كل واحد منا يعتبر نفسه نموذجاً وقدوة ولا يرى نفسه بموضوعية، رائع جداً أن تكون قدوة ونموذجاً طيباً، ولكن هل أنت فعلا نموذج طيب؟ هل أنت صاحب أخلاق طيبة فعلا؟

هل أنت تتبع الحق الذي قرره الله تعالى وأنزله من السماء أم أنك تتبع الحق الذي تعتقد أنت أنه حق؟

تساؤلات خطيرة أتمنى أن نوجهها لأنفسنا ونحاسب أنفسنا جيداً حتى تتحسن تعاملاتنا وتتطور مجتمعاتنا.. ودُمتم بألف خير.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد