إذا نظرنا إلى التاريخ العربي، وجدنا أن أضخم عمل علمي قام به العرب هو جمع اللغةِ العربيةِ وتقنين قواعدها، اتخذ بعد ذلك مؤسسو العلوم الإسلامية من المنهجية المنطقية العلمية اللغوية نموذجاً لاستنباط طريقة عمل لتطوير آليات عملهم، ومن ثم وقع تداخل وتبادل بين علوم الدين وعلوم اللغة لإنشاء فكر عربي إسلامي.
وإذا تحدثنا عن الفكر أو العقل العربي يتضح وراء ذلك أن هناك عقليات وثقافات أخرى فلا تستطيع أمة أن تطور حضارتها دون الاحتكاك بحضارات أخرى، فبالأضداد تتميز الأشياء، ولأن بعض الشعوب توصلت إلى الرقي بحضارتها بواسطة تفكير عقلاني نظري منطقي كالنهضة اليونانية مثلاً، قام علماء العرب الأوائل بترجمة أبرز النصوص اليونانية والهندية واللاتينية إلى العربية في ميدان الطب والفلسفة وغيرها، فتمكنوا من خلق مجتمع إسلامي جديد مفكر ومتفتح على علوم عالم ذاك الزمن، دارت بفضلها حوارات خصبة بين حضارات الشرق والغرب.
وبقفزة زمنية نقارن ذلك بما عليه الترجمة اليوم، فبالرغم من أن لغتنا العربية تحتل أوائل المرتبات من حيث عدد الناطقين بها مع الإنكليزية والإسبانية والصينية والهندية والروسية، إلا أن الدراسات تشير إلى ركود حجم الترجمة في عالمنا العربي بالمقارنة مع بلدان العالم.
الأزمة عميقة ومستدامة؛ بل الأزمة أزمات: أزمة مؤهلات، أزمة تمويلات وأزمة إرادات.
وفي هذه النقطة الأخيرة يحْتجُّ مَن لا يريد مناقشة أي استراتيجية للترجمة إلى العربية بحُجج غريبة كالحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، وكأن اقتناع الفرد العربي المسلم بهويته العربية المسلمة اقتناع هش لا يكاد ينفجر باحتكاكه بثقافات مغايرة، فاستسلم العقل للخذول وتدنت الكتابة ومعها الترجمة مع غياب خطة عربية عامة وغياب مترجمين متخصصين ومع تأكد مقولة أن (الشعب العربي يقرأ بأذنيه) استناداً للَهف الجماهير لكل شعر يُغنى.
وللأمانة نقول: إن العديد من الجهود قائمة في شتى البلدان العربية وغير العربية للترجمة، لكن تبقى جهوداً متفرقة من دون استراتيجية موحدة يكون هدفها النهوض بالفكر العربي.
فمثلاً تحتفل منظمة اليونيسكو ككل سنة باليوم العالمي للغة العربية في الـ18 من ديسمبر/كانون الأول كل عام، يتطرق فيه الحاضرون إلى مجموعة من المشاكل التي تواجهها اللغة في مجالات عدة كـ"تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها"، أو الترجمة، أو غيرها، لكن وككل احتفال من هذا النوع تبقى النهاية معلقة، معلقةً بتخبط الدول في أولويات أخرى.
ومن المؤكد أن لنقص التمويل دوراً في الأزمة، لكنَّ ثمة أسباباً أخرى تحبس الإرادات، منها تخوف بعض الحكومات من الغزو الفكري أو الديني، والعزف -كما سبق القول- على وتر الحفاظ على اللغة العربية كذريعة.
تبقى الكفاءات في الترجمة ضئيلة، يُرجع البعض ضعف مستوى المترجمين في بلدان عربية كانت مستعمرة إلى التعريب الكلي للتعليم بعد الاستقلال، دون تخطيط محكم واستراتيجية بعيدة المدى، وإن وُجدت الكفاءات غاب الجانب القانوني لتنظيم المهنة وحفظ حقوق المترجم، مثله مثل حقوق الكاتب والناشر.
وتفتقر البلدان العربية لدراسات تقييم العائد الثقافي للترجمة، وكذا العائد التربوي، ومنه العائد النهضوي، ولعل الإبداع الفردي للأشخاص ولمختلف المؤسسات اللاحكومية وحب الاحتكاك بثقافات العالم يكون أهم شرط للنهوض بالترجمة كديناميكية الحاضر لاستكشاف المستقبل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.