دون استئذان، استوقفتني في الطريق تطلب قداحة، حائراً في عينيها تساءلت كيف عرفت السجائر الطريق إلى شفتيها دون جهد، لا تملك تلك السيجارة البيضاء الصغيرة أية وسائل اغراء تجذبني إليها، لا بد أن الذي أغواها هو ذلك الدخان ناصع البياض بعد أن دغدغ لوزتيها وأنعش رئتيها قبل أن يرسل نيكوتينه إلى الصداع؛ ليكف مطرقته عن تلك الدماغ المستديرة الصغيرة، تحت ذلك الشعر الأحمر المموج الأخاذ.
لا أدري من أشاع بين الناس في بلادنا أن التدخين عادة ذكورية حلال للرجال وحرام على النساء؟ لا أدري أيضاً كيف اقتنع هؤلاء المدخنون أن استنشاق دخان السيجارة كريه الرائحة سوف يمنحهم سعادة ونشوة وتميزاً؟ خاصة بعد تدخين أول سيجارة وما يصحبها من سعال لا يمكن إيقافه!
تصنعت عدم سماع السؤال في محاولة للحصول على هدنة قصيرة أعيد فيها ترتيب أفكاري وأنظم كلماتي في الوقت الذي سوف تعيد فيه السؤال على مسامعي، لكن الخوف تسلل إلى قلبي أن تظن طلب إعادة السؤال هو استهجان غير صريح مني على رغبتها في التدخين، أرجوك لا تسيئي الظن بي؟
أنا من أشد المؤيدين لحرية المرأة في الاستمتاع بدخان السجائر إذا كان هذا ما يطيل لقاءنا، لم تلبث أن أعادت السؤال عن القداحة دون أي تعبير يدل على امتعاض من تكرار السؤال، ولكنني أهدرت فرصة التفكير في جواب للسؤال بالقلق من عدم تكراره.
لماذا أراها جميلة؟ ربما يتفق معي كل من يمر بهذا الشارع ولا يستطيع مقاومة التفات عينيه نحوها، ما الذي يجعل هذا الوجه مميزاً عن غيره؟ الحقيقة التي يعرفها كل الناس أن كل الوجوه لها نفس التكوين من عينين تحت حاجبين يتوسطهما أنف يعلو شفتين تخفيان بينهما فماً، ما الذي يجعل هذه جميلة وأخرى أقل جمالاً؟ ما مفهوم الجمال؟ وإذا كان للجمال معايير فكيف تختلف أذواقنا؟
تحسست جيوبي بحثاً عن القداحة مع علمي المسبق أني لا أملك واحدة، ولكني أردت فسحة من الوقت كي أطرد تلك الأفكار الكونية التي تراودني، وأبحث عن سبيل لبدء حوار مع هذه الحسناء، تركت يدي تغوص في جيبي بينما أفتش بين ثنايا لبي عن الجواب عندما تخرج يدي من جيبي خالية الوفاض، ماذا عساي أن أقول؟ لو أخبرتها أني لا أملك واحدة ستتركني وترحل؟ هل أعطيها بعض المال كي تشتري قداحة؟ ماذا دهاني؟ ربما تعتقد أنها مزحة لطيفة وتضحك لها، ولكن الأغلب أنها ستمطرني بنظرات احتقار ثم تذهب.
"كانت هنا، أين ذهبت؟" قلتها ثم بدأت أبحث في حقيبة يد كنت أحملها، نظرتها تشي بعلمها أني لا أملك قداحة، لن يطول انتظارها بعدما استنفدت كل الحيل، استسلمت حينها للواقع المحتم، وجررت أذيال الخيبة في محاولة إطالة بقائها، وأخبرتها بمزيج من اليأس والأسى أني لا بد قد فقدتها، ابتسمت شاكرة وهمت راحلة.
هنا لعب الحظ لعبته وأرسل القدر شاباً ثلاثينياً يمسك مفاتيح السعادة متمثلة في عمود سيجارة متدل بين أصبعيه يوشك على الانتهاء، استوقفتها لبرهة حتى أسأله عن قداحة، وذهبت إليه مسرعاً كمن وجد كنزاً يخشى أن يضيع، ولكن لم يكن الحظ سخي العطاء، فهذا الشاب لا يملك قداحة أيضاً، لقد استخدم آخر عود ثقاب لديه ليشعل تلك السيجارة ويحرق معها آخر آمالي في استبقائها، قبلت العودة بخفي حنين قبل أن يخبرني أنه يمكنني استخدام سيجارته في إشعال ما أريد، تهللت أساريري، وعدت حاملاً تلك الشعلة تضيء طريقي إليها، أعطتني سيجارتها كي أشعلها، وما أن استنشقت دخانها، حتى انطلق سعالي يفضح أمري، ويرسم ابتسامة الفطنة على وجهها.
أعطيتها سيجارتها آذناً لها بالرحيل، فمدت يدها إليَّ بالسلام قائلة: أنا داليا، وأنت؟"…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.