تعتبر الأديان من الأمور المركزية في حياة معظم الناس، فقلَّ ما تجد شخصاً لا يدين بدين معين ولا ينتحل نِحلة خاصة.
وإن من أعظم الابتلاءات والمِحَن والفتن التي ابتلى الله -تبارك وتعالى- بها البشرية هي ما قضاه وقدَّره من اختلاف عقائدهم، ومِللهم، ونِحَلهم، ومذاهبهم، فترى كلاً يتعصب لما اعتقده، معجباً وفرحاً وراضياً بما انتحله، منافحاً عما يدين به؛ إذ إن جلَّ مَن يتعصب إنما يفعل ذلك تقليداً وتبعاً، وهو ما عبَّر عنه سبحانه في قوله: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا".
وإذا تأمَّلنا في هذه الآية نجدها لم تعد تقتصر وتنطبق فقط على اليهود أو النصارى أو البراهمة أو غيرهم، بل تجاوزت هذه الأديان لتقع على الإسلام نفسه؛ لأن معظم المسلمين صاروا يشتركون مع من سبق ذكرهم في تجميد وتحجير الفكر والتفكر، فاندرجوا تحت ما يسمى بالتقليد الأعمى، فهم متعصبون لما عليه السلف، زاعمون أنهم على الحق ودينهم هو الحق، حتى إنك إذا سألت أحدهم عن دليل يبرهن به على ما يعتقده، لم تجد جواباً.
وإن مما لا شكَّ فيه أن التقليد الذي يكون فيه المقلد مثل الأعمى الذي يحتاج إلى مَن يدله على الطريق أمر مؤسف حقاً، إلا أن الأشد منه أسفاً، هو التقليد الذي يكون فيه المقلد بلا عقل، إنما يعمل بمقتضى ما يملى عليه ويقتدي بما عليه الآباء أو المجتمع، وهذا ما يسمى بالتقليد الأعمى.
ونحن نستغرب ونأسف إذا ألفينا أحداً على غير ملَّتنا؛ لأنه في اعتقادنا على خطأ؛ لأنه لا يدين بما ندين به في حين أنه في الحقيقة ينبغي أن نستغرب من أنفسنا ونأسف على أنفسنا، ونطرح السؤال: هل نحن مسلمون أو مسيحيون أو يهود بناء على دليل؟ والجواب على هذا السؤال يسير جداً، وهو (لا)؛ لأن معظمنا ينهج نفس المنهج وهو منهج التقليد غير المدلل وغير المبرهن، وهو التقليد الأعمى الذي نضيق إذا تم نعتنا به، ونبرئ أنفسنا منه، إلا أن الحقيقة مريرة جداً، وهي أنه لا فرق بيننا وبين من منهم على غير ملة الإسلام، إذا لم نعد جواباً على صحة وصدقية ما نعتقد به، ولأنه لا فرق بيننا وبينهم في البحث عن أحقية ما نؤمن به، فإذا كان دخولنا الجنة بناء على مجرد الاتباع لما كان عليه سلفنا دون البحث عما يثبت صدق ما عليه الأسلاف، وكان دخول من منهم على غير ملة الإسلام إلى النار بمجرد أنهم اتبعوا ما كان عليه أسلافهم دون البحث كذلك، لكان الله ظالماً في أنه جعلنا مسلمين بالتسيير، وجعلهم غير مسلمين بالتسيير، وحاشا لله أن يكون ظالماً، فالله أعدل العادلين، أمرنا جميعاً أن نبحث عن الحقيقة وندلل على ما نعتقده.
فكما أنه ينبغي على مَن منهم على غير الإسلام ألا يتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم، ويعمقوا البحث عن الحقيقة، لاحتمال أن يكون آباؤهم على خطأ، فكذلك نحن كمسلمين واجب علينا أن نُخضع ما عندنا لميزان الحقيقة حتى لا نكون ممن ذكرهم الله في كتابه في سياق الذم، وقال فيهم: "أوَلَو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يأمر صحابته بأن يؤمنوا به كرسول من عند الله دون أن يبرهن لهم عن صدق نبوته، وكذلك فيما يتعلق بالإيمان بالله تعالى، فقد بين لهم بالأدلة القاطعة التي زادتهم إيماناً أنه رب العالمين، فكان إيمانهم عن بينة ودليل.
ويمكن القول إن كل مَن يتعصب لما ينتحله ويدين به، من مختلف الملل والنحل، دون أن تكون له القدرة على امتلاك جواب كافٍ مقنع مؤصل من الناحية الشرعية والعلمية، فهذا يقال له وبكل صدق: إنك لو وُلدت مسيحياً لمت مسيحياً، ولو وُلدت يهودياً لمت يهودياً، والسبب لأنك لست إنساناً باحثاً عن الحقيقة، فقط أنت إنسان متعصب، فلو افترضنا أن المسيحي سيعجز عن الإجابة عن سؤال يوم القيامة، وهو لماذا عشت مسيحياً، واعتقدت أن دينك هو الصواب وهو عين الحق، فإن جوابه سيكون مطابقاً لجواب المسلم الذي عاش مسلماً، وظل طوال حياته مسلماً دون أن يبحث عن دليل اقتنع به يثبت صحة اعتقاده، والجواب هو لا أدري لأن كلا الرجلين لم يبحث عن الحق وعن صدقية ما يؤمن به، فلا فرق بينهما في الإيمان الأعمى.
وينبغي التفريق والتمييز هنا بين أمرين مهمين، وهو أن هناك فرقاً بين من اختاروا الإسلام ومن اُختير لهم الإسلام، فشتان بين الفئتين، فلا ريب أن الفئة الأولى: ممن اختاروا الإسلام لأنفسهم هم من أهل البحث عن الحقيقة وهم من عشّاق الدليل، وأذكر في هذه الفئة ثلاثة أصناف: الأول هم الصحابة فهم اختاروا الإسلام، والثاني هم العلماء والباحثون من المسلمين، وهؤلاء استطاعوا أن ينتقلوا ممن اختير لهم الإسلام إلى من اختاروا الإسلام، وذلك من خلال بحثهم عن البراهين التي تثبت صدق ما يعتقدون به، والثالث هم من أسلموا من الملل الأخرى، ممن وقعوا على الدليل الذي أقنعهم على الإسلام، أما الفئة الثانية: ممن اُختير لهم الإسلام فهؤلاء هم أغلبية الأمة، وهم المقلدة تقليداً أعمى، فهم مسلمون فقط؛ لأن مجتمعهم مسلم ونشأوا في أسرة مسلمة، فلو نشأوا في الهند لعبدوا البقر.
وأقول إنه حتى من الدائرة الإسلامية نفسها، نجد أن كثيراً ممن ينتسب إلى مذهب أهل السنة من العوام والعلماء يطعن في الشيعة، وخصوصاً الرافضة، وما لا يعلمه هؤلاء الطاعنون أنهم لو وُلدوا في بيئة مخالفة لما هم عليه الآن، سواء أكانت البيئة شيعية أو سنية لكانوا ممن يطعن فيما هم عليه الآن، فالشيعي يمدح التشيع ويفتخر به، فلو أنه وُلد سنياً لسب وطعن فيما يمدحه الآن ويتشيع له، وكذلك السنة فإذا كانوا يمدحون سنيتهم اليوم، ويتبجحون بها، فليعلموا أنهم لو وُلدوا شيعة لسبوا وشنّعوا وقبحوا ما هم عليه الآن من تسننهم.. (يُتبع).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.