العبور بين الشرق والاستشراق “1”

الاستشراق هو دراسة علماء الغرب لجميع جوانب الحضارة الشرقية، ومعرفة أنماط العيش والاتجاهات السائدة، في حين أن الاستغراب هو دراسة علماء الشرق، وهو الأمر المفقود، خاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية والأنثروبولوجيا، فالعالم الشرقي يبدو غير مهتم بهذه الأساسيات، التي انطلق منها الغرب في بناء نهضته، ولكن الشرق يختزل الحضارة في الآلة والتقنية، ويتناسى من أوجدهما لجميع جوانب الحضارة الغربية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/15 الساعة 03:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/15 الساعة 03:06 بتوقيت غرينتش

الاستشراق هو دراسة علماء الغرب لجميع جوانب الحضارة الشرقية، ومعرفة أنماط العيش والاتجاهات السائدة، في حين أن الاستغراب هو دراسة علماء الشرق، وهو الأمر المفقود، خاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية والأنثروبولوجيا، فالعالم الشرقي يبدو غير مهتم بهذه الأساسيات، التي انطلق منها الغرب في بناء نهضته، ولكن الشرق يختزل الحضارة في الآلة والتقنية، ويتناسى من أوجدهما لجميع جوانب الحضارة الغربية.

وهنا يجدر أن أشير إلى أنه لا يمكننا التسليم بعملية الاستشراق بسهولة؛ لأنه لا يخضع أبداً لمنهج موحد، بل يختار كل باحث الطريقة التي يراها مناسبة في دراسته، ومن هنا تتسرب الذاتية لتلطخ النصوص والتحليلات والنتائج التي يقدمها المستشرقون، هذا إذا سلمنا بأن الاستشراق لا ينطلق من خلفيات كنسية واستعمارية، وطبعاً هو ليس كذلك، فهو وبشكل جازم الابن غير الشرعي للكنيسة والمستعمر اللذين نجحا في استغلاله في إحداث اختراقات ثقافية والنفاذ من خلالها لبنية المجتمع الشرقي.

والسؤال الذي يُطرح عند بزوغ مصطلح الاستغراب: هل هناك فعلاً حاجة لدراسة الحضارة الغربية ونحن في عصر القرية الكونية الشاملة والمتشابكة والتفجر المعرفي والمعلوماتي؟ ثم هل يمتلك الغرب فعلاً رصيداً حضارياً وثقافياً وتاريخياً وروحياً يضاهي ذلك الذي يزدهر به الشرق؟

لا يبدو الغرب إلا تابعاً في السياق الحضاري فجميع الأحداث الكبرى التي عنت الإنسان إنما حدثت في الشرق، فالرسالات السماوية مهبطها شرقي والبدايات الأولى لعالم الأفكار وإفرازاته كان شرقياً وحتى الموروث الإغريقي الذي يتبناه الغرب لا يمكننا حسمه بين كونه شرقياً أو غربياً.

طبعاً وفي هذا الصدد بالذات يجب أن ننوه بأن أول جَلد للعقل البشري وتجلياته كان في أثينا، وقتل سقراط لدليل ناصع على التصادم بين الغرب والفكرة الحرة، طبعاً هجرة الفلاسفة من أثينا إلى الإسكندرية كان بعثاً جديداً للحضارة الإغريقية التي تأثرت بدورها بما جاورها من حضارات شرقية كالفرعونية والبابلية والفارسية، إذاً لا يمكن التأريخ للغرب كحضارة منفصلة عن الشرق، بل يمكننا القول إن الغرب هو النسخة اللاتينية للحضارة الشرقية.

يضيف إدوارد سعيد في كتابه الأشهر "الاستشراق" الذي صدر في عام 1978 باللغة الإنكليزية وترجم للفرنسية سنة 1980، وكانت ترجمة العربية سنة 1981، بترجمة الدكتور كمال أبو الديب، يقول إدوارد: "ليس الشرق مجاوراً لأوروبا وحسب، بل إنه أيضاً موقع أعظم وأغنى وأقدم المستعمرات الأوروبية، وهو مصدر حضارتها ولغاتها ومنافسها الثقافي".

ويضيف في محتوى آخر في نفس الكتاب: "إن الشرق جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية والثقافية للغرب"، وهنا يربط إدوارد سعيد بين الحركة الاستعمارية وأوروبا كمصدر لها، والحضارة المادية والثقافية والشرق كمصدر لها، وفي هذا تحقيب لمرحلتين: مرحلة تشارف على نهايتها، أو بتوصيف إكلينيكي تدخل في موت سريري كان يعيشها الشرق، ومرحلة تنطلق من سابقتها كقاعدة بيانية هي التي اتسم بها الغرب، ولعل أبرز صورها ومظاهرها الحركة الاستعمارية والاستشراق.

يُرجع ديل ديورانت، الفيلسوف الأميركي، فضلَ الحضارة بجميع تجلياتها وصورها وبأنماطها المختلفة وحقولها المتعددة إلى الشرق العتيق، وخاصة بابل ومصر، التي يعتقد أنها كانت مركزاً إشعاعياً انتشرت من خلاله الحضارات الشرقية، واستمدت منه أوروبا وأميركا ثقافتهما عبر قرون، عن طريق كريت واليونان والرومان، وبالعودة إلى الاستشراق كدراسات تأريخية للفكر والثقافة الشرقية لا بد أن نشير إلى جزئية هامة، وهي التركيز الدائم من المستشرقين على الحضارة الإسلامية بصفة خاصة؛ حيث بلغت الدراسات الاستشراقية التي تعتني بالتراث الإسلامي في الفترة الممتدة ما بين 1811 و1950 ستين ألف كتاب، وهو عدد كبير يفسر أهمية الاستشراق في بعده الاستعماري، وخاصة أن هذه الفترة كانت تتميز بسيطرة المد الاستعماري على أغلب الدول التي كانت تمثل جزءاً من الخلافة العثمانية، وهي المشهد الأخير من مشاهد الحضارة الإسلامية الصاخبة التي يجمع أغلب المستشرقين على أنها تمثل الحلقة الأهم في حلقات إنتاج الإنسان المتحضر لعلوم الحياة من فنون وفلسفة وأفكار، كما أنها زبدة وخلاصة الحضارات الشرقية الأخرى التي اندثرت بحكم عوامل الزمن والجغرافيا والأجيال المتعاقبة.

إن الانصهار والالتحام الإنساني اللذين تميز بهما المجتمع المسلم حالة متفردة في تاريخ البشرية؛ بل هي ممنوعة التكرار إلا في ظل ما تشابه من نصوص وقواعد وأعراف وقيادات، وهو الأمر الذي تختص به الحضارة الإسلامية والرسالة الإسلامية التي بعثت للناس كافة في صورة بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وأصحمة النجاشي.

وإذا ما أردنا التفريق بين الحضارة الإسلامية وباقي الحضارات الأخرى، فإنه يمكننا القول إنها فسيفساء إنسانية مشعّة، في حين اكتفت الحضارات الأخرى برصيدها القومي، مما جعلها محدودة الإنتاج، وميلها إلى التصادم مع الآخر، أي غير المتشابه، وهو ما يعبر عنه الكاتب ديبون في روايته "البحيرة الميتة" بقوله: لا يمكن أن يكون هنالك أصدقاء حقيقيون دون أعداء حقيقيين، ويوافقه الرأي صامويل هنتنغتون عندما يردف قائلاً: إن لم نكره ما ليس نحن فلا يمكننا أن نحب ما هو نحن، في كتاب "صدام الحضارات"، كما أننا وقد ذكرنا صامويل هنتنغتون فلا يمكننا أن نتجنب الحديث عن الخطر الذي تمثله الحضارة الإسلامية، وبنيتها العقائدية، وتكوينها الفكري، وإرثها التاريخي، وتطلعاتها المستقبلية، على الحضارة الغربية الناشئة والفتية، ما يذهب إليه صامويل ليس نبوءة أو توقعاً بقدر ما هو رؤية استراتيجية يتبناها صاحب الكتاب، ويعتقد من خلالها أن الصدام حتمية لا مفر منها، وأن الهجوم أقل تكلفة من الدفاع.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد