لماذا أغاني العراق حزينة؟

هنا؛ قُتِلَ العراقيّون مرّتين، مرّةً بإرهاب بشار، ومرّةً بإرسالهم للقتال تحت رايته، إذ انتشرت مكاتب تجنيد الشباب بشكلٍ علني في محافظاتٍ عراقية عدّة، وتدفّق إلى سوريا ما بين 15 و20 ألف مقاتل عراقي

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/14 الساعة 05:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/14 الساعة 05:58 بتوقيت غرينتش

ما زلتُ أذكرُ ذاك المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء العراقي السابق نائب رئيس الجمهورية الحالي نوري المالكي في عام 2009م، والذي اتهم فيه النظام السوري صراحةً بدعم وتمويل العمليات الإرهابية التي أدّت لمقتل وجرح آلاف المدنيين في العراق، بالإضافة إلى تدريب وإيواء دمشق "للعناصر الإرهابية"، وتحدّث بإسهاب حول ما قاله إنه تعاونٌ بين حزب البعث السوري وبين تنظيماتٍ من حزب البعث العراقي المُنْحَلّ "لنسف العملية السياسية"، وأكّد حينها تقديم بغداد "أدلّة دامغة" للأمم المتحدة تُثبت ذلك.

ولا أنسى ذاك الخطيب الذي هاجم من على منبره بشار الأسد، ناعتاً إياه بالمجرم والسفّاح الذي تلطّخت يداه بدماء العراقيين الأبرياء، وبعد كلمات حماسيةٍ واستعراضٍ مطوّلٍ لما وصفها بالجرائم البشعة التي ارتكبها الحزبان بحق الشعبين العراقي والسوري، خَلُصَ الخطيب إلى أنَّ البعث السوري والبعث العراقي خرجا من رَحِمٍ مشوَّه واحد، وأنَّ بشار يجب أن يلاقي المصير ذاته الذي واجهه صدام حسين، فهما في الجُرم سواء – على حد وصفه.

وكنّا بين عامي 2008 و2011 على موعدٍ دائم مع حلقاتٍ خاصة يبثّها التلفزيون العراقي الرسمي والقنوات المقرّبة من الحكومة ويتم فيها عرض أشخاص من جنسيات عراقية وعربية، يتحدّثون عن عمليات قتل وتفجير وخطف ارتكبوها بحق مدنيين عراقيين، وكيف أنهم تلقّوا تدريبات على يد المخابرات السورية في مدينة اللاذقية، وكلامٌ طويلٌ كلّه يصب في اتهام النظام السوري بدعم الإرهاب في العراق، يمكن لمن يريد الاستزادة مشاهدته في اليوتيوب.

اندلاع ثورات الربيع العربي وانتشارها في بلدان عربية عدّة كانتشار النار في الهشيم، وإطاحتها بأصنامٍ جثمت على صدور شعوبها لفترات امتدّت لعقود، بدّلت آراء الكثيرين وأخلّت بموازينهم وقَلَبت مواقفهم رأساً على عقب، فالسيناريوهات التي حصلت لم يتوقّعها أشدُّ المتفائلين، فهذا بن علي يهرب من تونس مع عائلته، وذاك مبارك يتنحّى عن الحكم ويُعتقل مع رموز حكمه، والعقيد القذافي يُقتَل ويُسْحَل، وعلي صالح تحرقه نيران ثورة شعبه ويهرب وغيرها كثير.

الحكومة العراقية كانت ضمن الذين اختلّ توازنهم وانقلبت مواقفهم، فقد تحوّل بشار الأسد في نظرها من داعمٍ للإهاب الذي فتك بالعراقيين إلى مكافحٍ له، وباتت من أشدّ الداعمين له وأكثر الحريصين على بقائه في الحكم، والخطيب الذي كَفَّرَ الأسد، سخّر منبره لحشد متطوعين للقتال معه، وكذا الحال بالنسبة للإعلام الذي أضحت عبارات "محور المقاومة" و"المؤامرة الكونية على سوريا" لا تفارق ألسنة مقدّميه ومذيعيه.

سرّ هذا التحوّل الكلّي والمفاجئ هو حضور الاعتبارات الطائفية، التي للأسف متى ما حضرت في عالمِنا العربي تلاشت معها كل الاعتبارات الأخرى، وتصبح المعادلة "سفّاحٌ من طائفتي خيرٌ مِن ألفِ عادلٍ مِن غيرها".

ولهذا تجد اليوم مَن ينظر للثورة في بلدٍ ما، على أنها "إرهاب يجب سحقه"، وفي البلد الآخر "كفاح من أجل الحرية يجب احترامه"، رغم أنَّ الأسباب التي أدّت لاندلاعهما تتشابه في كلِّ تفصيلاتها.

هنا؛ قُتِلَ العراقيّون مرّتين، مرّةً بإرهاب بشار، ومرّةً بإرسالهم للقتال تحت رايته، إذ انتشرت مكاتب تجنيد الشباب بشكلٍ علني في محافظاتٍ عراقية عدّة، وتدفّق إلى سوريا ما بين 15 و20 ألف مقاتل عراقي، شكّلوا إلى جانب اللبنانيين النسبة الغالبة ضمن الجنسيات التي تقاتل مع النظام الذي كان يقتلهم بالأمس القريب.

قالوا لهم سنأخذكم للدفاع عن مرقد السيّدة زينب، لكنهم وجدوا أنفسهم في مناطق تبعد عن المرقد مئات الكيلومترات، قاتَلوا عدوّاً لا يعرفهم ولا يعرفونه، فَقَتَلوا وقُتِلوا بالآلاف، ولا تزال حتى اليوم نعوشهم تُشحن من دمشق إلى بغداد.

أحزنني كثيراً مقطع فيديو بثّته فصائل سورية مسلحة ويظهر فيه أسرى عراقيون في مقتبل العُمُر، يبكون ويُقسِمونَ أنَّهم خُدِعوا، أحد هؤلاء لا يعرف حتى اسم المنطقة التي تركه فيها أولئك الذين جلبوه من العراق بزعم الدفاع عن المراقد، وقبل أن يواجهوا مصيرهم المحتوم، نصحوا مَن خلفهم بعدم المجيء إلى سوريا.

كان الأولى بمن حرّضهم وزجّ بهم في محرقةٍ خارج بلادهم أن يوفّروا لهؤلاء الشباب تعليماً جيداً يؤهلهم لأن يكونوا بُناة في بلادهم، لا أن يُعبئوهم طائفياً ويحوّلوهم إلى أدواتٍ وأرقامٍ في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فبهم حافَظَ بشّار على كرسيّه حتى اليوم، وبهم بسطت إيران هيمنتها على سوريا، وبهم كسب بوتين منطقة نفوذ جديدة، أما العراق فلم يجنِ سوى توسّع المقابر وازدياد الأرامل والأيتام فيه.

والمصيبة أنَّنا بدأنا نسمع اليوم بكثرة دعوات غبيّة لإرسال عراقيين للقتال في اليمن، يُقاتِلون إلى جانب مَن؟ ضد مَن؟ لمصلحة مَن؟ ما شأننا وشأن اليمن؟ وآخرون يتوعّدون باقتحام الخليج، المؤسف حقّاً هو علوّ هذه الأصوات على الأصوات العقلانية التي تحذّر وتدعو إلى التنبّه من أن أخطر ما قد نقع فيه، هو أن نكون وقوداً في معارك الآخرين.

من الغباء أن تكون جماجمنا طريقاً تدوسه هذه الدولة أو تلك للحصول على ما تصبو إليه، أو أن تكون سلّماً يصل به هذا الطاغية أو ذاك إلى كرسي الحُكم.

آن الأوان لهذا العبث أن ينتهي، يكفي ما خسِرناه في حروبٍ عبثيةٍ وصراعاتٍ سياسيةٍ وطائفية، فمنذ الانقلاب الدموي في 14 يوليو/تموز 1958م وحتى اليوم، لم يأتِ حكام إلا واستثمروا في دمائنا.

من الحرب العراقية الإيرانية إلى حرب الكويت ثم الحصار، مروراً بالغزو الأميركي وانفلات المليشيات ووحشية داعش فهمجية التحالف الدولي، خسر العراق ملايين الأشخاص بين قتلى وجرحى ومشرّدين.. ولا يزال الجرح ينزف.

حتى إنّنا لم نَعُد نعرف للفرح سبيلاً ولا للسعادة مذاقاً، فرائحة الموت منتشرة في كلِّ مدينةٍ وحيٍّ وشارع، ولم يبقَ بيت عراقي إلا وسرقت الحروب والنزاعات منه أباً أو أمّاً أو ابناً، سألوا الشاعر المعروف كريم العراقي: "لماذا أغانيكم حزينة"؟ فأجاب بقصيدة مطلعها:
يقولون: أغانيكم حزينة!
هو إحنا يا عمي إيش بإيدينا؟!
من آدم ولليوم وإحنا
دم تمطر الدنيا علينا
كل يوم فايض بينا طوفان
كل يوم غرقانة السفينة
توارثنا من نوح السفينة
وفوق الخناجر نمشي حُفّاي
ونغنّي عزة نفس بينا!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد