في غار الدهشة: عازف المزمار

الفكرة كانت عبقريّة. رأى فيها الأستاذ أسعد فرصةً لتجسيد رؤيتنا الفرديّة؛ لأننا سوف نعمل على فيلم التّخرج بمجموعات. لقد كانت فكرة المهمّة أعمق من هذا بكثير.. هذا ما شعرت به وأنا أخوضه

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/14 الساعة 08:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/14 الساعة 08:41 بتوقيت غرينتش

مرَّت ثلاثةُ أيامِ على مخيَّمنا "كيف تحكي الحكاية؟" في رواندا، كان صباح اليوم الرّابع حينها قد ولج ساعته الثّامنة، الموعد المقرر لبداية الدرس، لكننا لم ندخل الكوخ الذي جمعنا طيلة المخيّم، فقد دعانا الأستاذ أسعد لنجلس في حلقة دائرية على العشب المجاور للبحيرة.

في طريقي الى الجلسةـ، تذكرت رؤيتي المكان أول مرّة، ظننت وهلةً أن العشب الذي أمامي لو لم توقِف تمدُّدَه بحيرةُ "كيفو" لتمطّى حتى صار سيداً.. هل قاوم ماء البحيرة العشب؟ لا بدّ لنا من الحركة الداّئمة، من خلق التّداخل.. لتكن هذه الحياة جزءاً من قوانا.. من مكوناتنا.

راوغنا الأرض فاخترنا لجلوسنا بقعة أقلّ انحداراً، إلاّ أنّ الأرضّ أصرَّت أن تفرض علينا شيئاً من تضاريسها، فننحدر ببطء الى أسفل، نضحك ونعاود الزّخف بخفّة إلى أعلى. الأرض عنيدةٌ لكنّها الأكثرُ احتواءً على الإطلاق. أطلّت الشّمس، كانت حارقة تُنازعُ قوّتها صلابة الأرض.. أرادت أن تطهونا، ونحن في الحقيقة نطهو حكايتنا بعد جولة أمس، جولة اصطياد الفكرة.. وكان الأستاذ أسعد قد سألنا عن الأفكار التي راودت أذهاننا.

هربنا من الشّمس إلى كوخنا. كان دافئاً، يَضُمُّ الكثير من الأحلام والطّموحات، صرنا به اطفالاً ثرثارين، نقرع باب المشاكسة ونركن إلى الإصغاء؛ بين الاستجابة والمراوغة؛ بين الإقدام والتَّردد… أتممنا به مرحلة من الشغف. في كوخنا لم تكن مسافات، كان كوخاً من الرُّؤى.

بعد دخولنا الكوخ، طلب منا الأستاذ أسعد أن نشحذ أفكارنا ونصقلها جيّداً، لم يكن سؤاله لنا عن الأفكار والخواطر التّي راودتنا عبثّا، هكذا قال؛ سنقدّم اليوم فيلماً قصيراً يحمل رؤيتنا الشخصيّة، نحن من سيقوم بالمهمّة كاملة من الفكرة وتجسيدها، عبر التّصوير والمونتاج والإخراج … ذُهلنا، أما فرحنا بحريّة الفكرة فكان أكبر.

الفكرة كانت عبقريّة. رأى فيها الأستاذ أسعد فرصةً لتجسيد رؤيتنا الفرديّة؛ لأننا سوف نعمل على فيلم التّخرج بمجموعات. لقد كانت فكرة المهمّة أعمق من هذا بكثير.. هذا ما شعرت به وأنا أخوضها.

بدت لي المهمة تحتاج للكثير من الجهد. تبادر إلى ذهني، المونتاج. أرجأت التفكير فيه، ثمة خطوات تَسبِقه. إنّه التصوير، كان مأزقاً بالنسبة لي، لا أؤمن بأنني أستطيع أن أكون مصورة متميزة.

راجعت محاضرة التصوير التي تعلمتها من الأستاذ "هيثم أبو عقرب"، وطلبت من الأستاذ "مهند حراز" أن يضبط لي اعدادات الكاميرا ويرشدني كيف أصوّر فيديو بنجاح. مهنّد من طاقم المخيّم التدريبيّ، من الأشخاص اللطفاء الذين لا يمكنك إلا أن تستسلم لروعتهم، يعمل مصوراً ومخرجاً، يملك تسريحة شعر طويل تُميّزه، يغطيه بمنديل صغير.. أعتقد أن لكونه لطيفًا وخجولاً علاقة بذلك، إلى جانب كونه فناناً يحاول أن يضبط إبداعه.

تفقَّد الكاميرا بتفاصيلها كافة، وقدّم شرحاً وافيّاً للقدر الذي خجلت أن أعاود سؤاله .. وكدت أطلق، حتّى عدت ثانيةً نحو الأستاذ هيثم وطلبت منه بعض الشرح عن تصوير فيديو لجسم ثابت وجسم متحرك. شَعَرَ بترددي، كان حازماً في بثّ الإرادة في داخلي.. فخرجت إلى الفكرة!

هيثم، يرتدي نظارات بعدسات دائريّة، لاحظت أنه يمتلك أكثر من واحدة، إحداهنّ حمراء لها عدسات مدوّرة بدقّة متناهية. منذ رأيتها، شعرت أنها للطفل الذي بداخله. أما هو فطاعنٌ في حسّه الفنيّ وبالغ الأثر.. شاءت الصدفة أن أسأله عن النظارة الحمراء ونحن في الطائرة نغادر كيجالي إلى إثيوبيا، كانت النظارة منضبطة على خلفية المقعد أمامه، وعيناه عاريتان بمحادثة لا تنسى.

صعدتُ الدراجة الناريّة نحو مركز "كيبوي"، الكاميرا -تخوّفي الأول- تتدلَّى من عنقي، والدراجة -تخوّفي الثاني- تندفعُ إلى الطريق. انكشف بمحاذاتنا جمال رواندا بأزقّتها وأناسها وشوارعها، أفلتُ يدي ومددتها لأُلامس المكان.. بدا الخوف جباناً، ساورني شكّ وجوده فأفلتُ يدي الثانية، شرّعتها على مصرعيها وضحكت بجنون.

أيقنت أن عليّ أن أوقظ في نفسي آدم الأول الذي سقط بخطيئته إلى دهشة الأرض والبحث، أردت أن أشعر بالتيه؛ لأعلم َما يودُّ هذا الهواء الخافق في صدري أن أهتدي إليه؟ عليّ أن أرى الحياة بعين الطّفل، العين التّي لم يفسد نظرتها الكرُه أو الشّر. وأسير بقلبه الذّي يعيش حالة دائمة من الانفعال، والدَّهشةِ والاكتشاف.

سِرتُ حيثُ دفعتني الطّرقات، الجمال يذيب القلب، يطوّعه.. أما قلبي، كان في ارتوائه يهذي بوطني، أراهُ ينفذ من بين الزوايا.. لا يتوقف الفلسطينيّ عن البحث عن وطنه. أسير ومن حولي شعب أحبّ أرضه فتكامل مع الطّبيعة سهولها وجبالها وبحارها، شعب عرف أن لا شيء يشعرنا بالقوة والتَّجذّر بقدر الأرض، فقرر أن يُسامحَ ويغفر لمن أبادوا أهله لتبقى بلاده آمنه.

العيون تقول بثقة: ما دام الإنسان هنا، يخفق على هذه الأرض، عليه ألَّا يكفّ عن المحاولة، ألَّا يكفّ عن خلق المتعة، أن يبصمَ على الأحجار والأشجار والطُّرقات، أن يخلُقَ الاتّجاهات ثمّ يسير.. شعرت في لحظة بأن أهل هذه الأرض في استحقاق للخطى التي تعدُّ جيلاً من بعدهم.. بدأت أبحث عن الأطفال؛ ليقولوا ما تقوله الحكاية.

نظرت في السّاعة، وجدتها الحادية عشرة والنّصف، أمامي ساعة ونصف الساعة كحد أقصى لأنهيَ مهمّة التّصوير، وأعود في تمام الواحدة ظهراً إلى المخيّم. قد خُصصت لنا 3 ساعات لتصوير لقطات الفيلم.

الجو حارٌ والشّمس قد اشتدّت سطوتها، هي الظّهيرة.. أحاول أن ألتقط ما يصادفني وأجده مناسباً لتصوّري للفيلم. لكن الكاميرا توقّفت عن التّشغيل رغم أنّها مشحونة بالطّاقة الكهربائيّة، حاولت أن أعاود تشغيلها، إلّا أَنّها أصرَّت على أن تعاود التَّوقُّف.. علمت مؤخَّراً أن حرارة الجو المرتفعة كانت السبب. لشدة انفعالي، جلست على جانب الرَّصيف، طأطأت رأسي وشرعت الدّموع تنفذ من عيوني.. كان الشّعور بالمسؤوليّة تجاه المهمَّة صعباً، الآن أَتذكَّرُ الموقفَ فأضحك.. لكنَّني ارتبكت بحق.

راودتني نفسي.. سأتمرَّد على هذا الحظ التّعيس وأُضرب عن صناعة الفيلم! اقتحمتْ بصري عشراتُ الأقدام الصغيرة، أطفال فكرتي يتحلّقون حولي ويتمتمون، وبعضهم كان شجاعاً أخفضَ رأسه وأطلََّ في وجه الغريبة التّي تندبُ حظَّها على الرَّصيف. رفعت رأسي… الشّارع يتدفَّق بالأطفال، عائدين من المدارس. تذكّرت حكاية عازف المزمار الذي بسحر موسيقاه سيّر الأطفال خلفه إلى الجبل.. فأخرجت كاميرا الموبايل وأتممت التَّصوير.

قاربت الساعة الواحدة، بدأت أبحث عن سائق دراجة يقلني إلى المخيم. عاودتني الأسئلة: ماذا لو بحث كلّ منا عن عازفه؟ قررت أن أستمتع وأنا أركب الدّراجة هذه المرّة، وأتذكر كم طفلاً يسير معي في فكرتي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد