بينما أنا جالس أسبح في بحر أحلامي وبجانب شارع.. التقيت سيدة، كانت أجمل من الجمال، تسر الناظر وتفتن القلب، عيناها الواسعتان تحملان تفاصيل حياة تمنيت لو أن ويليام حي؛ لينسج منها إحدى مسرحياته، أما غمازتي الوجنتين، فذلك نهر جارٍ لا نهاية له، أوَلم أقل لكم إنها أجمل من الجمال؟
سألتها عن اسمها، قالت لي بخجل رامية بعينها أسفل الأرض إنها تدعى أم عبد القدوس، حتى الاسم أخذ من ذلك الجمال نصيباً، أثارني اسم: عبد القدوس فأخذت على نفسي عهداً أن أربطه يوماً بنسبي.
سألتها عن الحياة الجارية في عينيها فرمقتني بحدة كأنها تلومني على وقاحة السؤال، تراجعت قليلاً واعتذرت فقالت بنبرة حزينة، لو كان الاعتذار يسد ثقب المسمار على الجدار لما وجدتني هنا.
تعالَ يا بني أحكي لك ما بي لعل حكايتي تبقيك على قيد الأمل.. تعالَ!
جلسنا على الحافة، فهزت بعينيها ترمق السماء وتبتسم راسمة نوراً ممتداً من غمازة اليمين إلى اليسار من محياها الثائر.. فحركت ثغرها مسترسلة:
"هذه الحياة الجارية في عيني كانت يوماً من الأيام تجري أمامي، يوم كنت أنا وحبيبي نلعب بالأمل كما يلعب الطفل الصغير بدبه البني.. كنا صغاراً أيضاً.. رسمنا أحلامنا على جدار من ذهب، كانت تبدو لي جميلة، أنساني لعبي هذا معاناتي قبل الصغر.. أنساني حبيبي ألمي وقتاً فحان وقته ليكون هو الألم.. آلمني، جرحني، آذاني.. فعل الكثير ليدمرني ولم أستطِع الغفران له، حاولت لكن لم أستطِع، فقدت كل شيء حينها، فقدت الأمل أو كدت أفقده.. فالأمل إذا وجد لا يفقد أبداً، ظننا معاً أنه موعد الفراق، تقبلنا الفكرة مبدئياً وصرت أفكر في الانتقام بأي طريقة، كان عنادي يعاندني لأفعل به ما لا يُفعل، لكنه كان يعود "حبيبي" ويروضني كقطة صغيرة أداعب قلبه مصرة على عدم الغفران، مصرة حتى ولو لم أرِد خسرانه، كيف أخسر من جعل لي روحاً وأحيا قلباً ظننته مات يوماً، فطمأنته بذلك، لم أكن مستعدة بعد لنلعب معاً، ما زلت أستجمع قواي المندثرة وأرمم حطامي.. محطمة أنا، مسكينة أنا يا بني".
صمت رهيب يعم المكان، دمعة وردية اللون نازلة من مقلتها اليمنى ببطء ترسم تضاريس وجهها، نصفها علق بين الشفتين، والنصف الآخر سقط على الأرض.. فكان وقع السقطة قوياً كفاية ليخرجني من سحر ذلك الجمال.
استيقظت فوجدت نفسي مستلقياً على سرير يصدر أصواتاً لا أفهم معناها، أغمضت عيني مسرعاً محاولاً استرجاع الحلم، استرجاع السيدة، استرجاع الأمل، حاولت مرات ومرات، كل ما أراه سواد في سواد وبسمتها العالقة في ذهني.
تمنيت أن أجيبها قائلاً: يا سيدتي، أنت جميلة، وحبيبك مغفل؛ لأنه لا أمل له إلا معك، أنت جميلة والجميلات يغفرن، أنت جميلة والجميلات يرحمن، أتعلمين ماذا يقول الدكتور مصطفى محمود، يقول: "إن القضية إذاً ليست قضية حب، فهناك من تحب ولا ترحم.. وهذا حال الكثرة. وهناك من ترحم ولا تحب، وتلك عطاؤها شفقة وصدقة، وذلك عطاء لا حب فيه، وندر بين النساء من جمعت في قلبها جمعية الحب والرحمة، تلك التي عواطفها سكن، وحنانها قيم، وحبها ظل ظليل، وليس ناراً محرقة"، وأنا أتخيل حبك ظلاً ظليلاً لا نار محرقة، هنيئاً لحبيبك بك، فأنت الجميلة لا هو، وأنت التي تبدين في الأحلام لا هو، والأكثر من ذلك، أنت أم عبد القدوس.. ربما فخامة الاسم تكفي.
بين كل السواد ظهرت فجأة، السيدة باسمة يشع منها نور يرافقها سيد يلوح لي كما لو أنه يشكرني، عرفت أنه الحبيب، بادلتهما التحية فعاد الكل سواداً، وعدت أنا كما أخبرتني سيدتي على قيد الأمل.. فالأمل إذا وجد لا يفقد أبداً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.