يقولون إن الذي يعود بعد غياب عن مكان عادة ما يبدأ في ملاحظة أشياء والتساؤل عنها ربما لم تكن تثير فضوله من قبل، ربما لهذا السبب لاحظت "أحد السعف" في العام الأول لعودتي لمصر، ووجدتني أتساءل عن المناسبة التي يحتفل المسيحيون بها. أليس هذا غريباً؟ أن أكون في صغري في مدرسة راهبات وقد اعتدت أن آخذ كل أعياد المسيحيين إجازة ورغم ذلك لم أسأل ما المناسبة؟ بل والأغرب أن أرى طوال هذه السنوات زملائي المسيحيين المصريين يقولون إنهم في إجازة بسبب عيد كذا أو كذا ولم أسألهم قط ما معنى هذا الاحتفال؟
هذا العام كان مختلفاً فقد أحببت مشهد الأقباط وهم يدخلون الكنيسة المرقسية على كورنيش المعادي حاملين سعف النخيل.
فكرت جدياً أن أنزل من السيارة وأشتري سعفة مثلهم، ولكني قلت سيقولون وسيقول من في الشارع إنني قطعاً مجنونة لأفعل هذا، ولكن لماذا؟ لماذا يبدو مستحيلاً قطع هذه الأمتار القليلة التي تفصلني عن هؤلاء الذين يشترون السعف؟ ما زلت لا أفهم لماذا يشترونه ولكني أريد سعفة، يمنعني منها ببساطة أنني أرتدي الحجاب وأبدو مسلمة وهم يرتدون الصليب أو ينقشونه على أيديهم ويبدون مسيحيين.
كان الأمر كفيلًا بأن أسأل ما هو عيد السعف هذا وعرفت أنه احتفال بدخول المسيح لأورشليم؛ حيث استقبله أهلها بالسعف والزيتون! يا للعجب! نحن كمسلمين نسعد بدخول المسيح لأورشليم، فلماذا لم يخبرنا أحد عن هذا العيد؟
تساءلت فيما بيني وبين نفسي لماذا لا يفعل المسيحيون في مصر كما تفعل بعض صديقاتي المسلمات في أميركا الشمالية؛ حيث يتطوعن للذهاب لمدارس أولادهن والتعريف برمضان والعيد الصغير والكبير ويصنعن فوانيس رمضان وكعكاً من أجل الصغار؟ يقمن بهذا من باب التعريف بالآخر، ولكي يتقبل الآخرون أولاد المسلمين عندما يفهمون عاداتهم أكثر. إذاً لماذا لا تقوم السيدات المسيحيات المصريات بالمثل؟ ولماذا لا يقوم الشباب بتوزيع السعف على الناس في الشوارع؟
ابتسمت ساخرة من نفسي وكيف أني نسيت مصر، غالباً إذا فعل أحدهم هذا سيتطاول عليه البعض ويتهمونه بمحاولة تنصير الناس وربما قبضت عليه السلطات من أجل زعزعة الأمن وبث الفتنة الطائفية.. إلخ.
ما زلت لا أفهم لماذا نخلط كثيراً في مصر والعالم العربي ما بين قبول ما يفعله الآخر والاقتناع به؟ بمعنى أنه بما لا شك فيه أن معظم غير المسلمين يرون أننا نحتفل بأساطير عندما نحتفل برمضان مثلاً، فهم ليسوا على اقتناع أن هناك ملكاً نزل بالقرآن على سيدنا محمد وإلا كانوا أسلموا، ولكن أن أقتنع بشيء يختلف تمام الاختلاف أن أتقبل أنك من حقك أن تقتنع به، وهذا ما أعتقد أن كثيراً من المسلمين المعتدلين يقومون به: فليحتفل المسيحيون كما شاءوا بأعيادهم ولكم دينكم ولي ديني.
ولكن هناك خطوة بعد قبول الآخر وهي أن نفهم ونستوعب أعيادهم وعاداتهم وتقاليدهم؛ لأنه من غير المعقول أن نعيش ونعمل في مكان واحد وأبسط الأشياء لا نعلمها عن بعضنا.
وهنا تأتي المشكلة: أن كثيراً منا عندما يبحث عن الآخر ترى عيناه فقط المختلف، وهذا قد يبدو طبيعياً في البداية؛ لأنك تريد أن تتمسك بهويتك وتعطي لنفسك أسباب لماذا لا تريد أن تكون مثله، ولكن بعد أن عرفت المختلف، لا بد أن ترى المساحات المتفقة أيضاً وتقدرها لأنها ستقرب بينكما.
كمثال مبسط بعيداً عن الأديان نتخيل أنك مشجع أهلاوي وتزوجت فتاة تشجع الزمالك، يمكنك أن تنظر إلى المتفق وهو أن كليكما يفهم كرة القدم ومن الممكن أن تتناقشا حولها وتتجمعا حولها وهو شىء لا يتوافر كثيراً في كثير من الزيجات، ولكن إذا كان كل منكما متعصباً جداً لفريقه ربما تحولت هذه المناقشات الكروية إلى خناقات وربما انتهى الأمر بالطلاق؛ لأنكما تركزان على نقاط الخلاف باستمرار.
كذلك عيد السعف، إذا قرأت عنه ستجد هناك تفاصيل قد لا تتفق معها عقيدتك كمسلم مثل قراءة الإنجيل، ولكن هناك مساحات مشتركة أخرى بعضها فيه بهجة مثل السعفة التي أريدها.
وبالمثل إذا تأملنا نظرة بعض المسلمين للصليب وكيف أنه عنوان لشيء لا يقتنعون به وهو صلب المسيح ويستحضرون كلما رأوه الآية "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، البعض بسبب رفضه للعنف ضد المسيحيين يريد أن ينتزع هذه الآيات أو يطلب أن نكف عن ترديدها؛ لأنه يعتقد أن قبول الآخر يعني أن تتفق معه 100% وإلا ستقتله. وهذا هو التفكير الثنائي الذي اعتدنا عليه في التعليم في بلادنا (إما أنك تتفق مع نموذج الإجابة وإما إنك راسب).
ولكن سيدي الفاضل: سيظل المسلمون يؤمنون أن المسيح لم يصلب وأن الله قد رفعه إليه، وسيظل المسيحيون يؤمنون أنه قد تم صلبه ويرتدون الصليب ويزينون به منازلهم ومحالهم. ما نريد أن نغيره ليس ما يعتقده كل شخص، ما نريده هو أن يتقبل كلاهما الآخر.
ولذلك سأبحث عن المشترك؛ الصليب يمثل ما كان يريد أن يفعله أعداء المسيح به (وهم أعداء للمسلمين أيضا بالمناسبة؛ لأنهم أعداء الرسالة التي كان يريد الله أن يؤمن بها الناس وقتها) والمختلف هو هل نجحوا أم لا؟ المشترك هو أن أحدهم تعذب على الصليب، وأنه تجسيد للظلم في عصر المسيح ، والمختلف هو هل كان هذا الشخص المسيح أم لا؟
ما زلنا مختلفين، ولذلك لن يضع المسلم صليباً ولن يزين به منزله، ولكن هناك مشترك إذا رأيناه ستختفي كثير من نظرات الاحتقار أو الاشمئزاز من الصليب والرفض النفسي لمن يرتديه.
وهذا ما يحاول بعض المسلمين فعله في الغرب حتى يتقبل الآخر الحجاب، انظروا هذه ماري والراهبات لا تظهر شعورهن؟ وبالتالي الحجاب لا يمثل شيء ترفضونه بل يمثل شيئاً مشتركاً بيننا.
هل تفهمني أيها القارئ؟ هل تفهم فرحتي مثلاً عندما كنت أتحدث مع زميلتي الشيعية عن مشكلة تقابلني فردت بقوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقتها برقت عيني؛ لأن هناك مشتركاً ما بيني وما بينها كثيراً. نحن نقرأ نفس القرآن!! ولكن إذا ركزت على خلافة علي والمهدي والأشياء الأخرى ستجدنا مختلفين في أشياء نعلمها جيداً، ولذلك لن يتحول منا لعقيدة الآخر، ولكن ما زالت تجمعنا في أشياء أخرى أرضية مشتركة للحوار وللتعايش.
ربما بسبب أنني عشت في كندا كأقلية تحاول أن يفهمها الآخر وتقرب المسافات ما بينهما، شعرت يوم الأحد أني أريد أن أخذ سعفة؛ لأني رأيت فيها ما قد يكون مشتركاً ليقربنا كبشر من بعضنا البعض، وربما لهذا سرحت في خواطري لأتخيل أنه من الممكن أن يوزع المسيحيون السعف في الشوارع ويشاركونا احتفالاتهم، وربما تخيلت أن تفتح الكنيسة يوماً أبوابها في عيد الشكر لتمد مائدة طعام لمن يسكنون بجوارها، كما فعل المسلمون في كالجري في العام الماضي عندما أقاموا مائدة إفطار رمضان للجيران غير المسلمين، وربما سرحت في خواطري أكثر أو أقل حتى قرأت خبر تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.