تمر الأيام وتدرك أن قيمة الإنسان تكمن في تدبيره للأمور وتفاعله معها، ومدى علمه في فن الحياة ومصائبها، كيف يصنع من الحزن أملاً واحتساباً ومن الفرح شكراً وحمداً.
تمر الأيام وتدرك أن الأصل هو ابتلاءات تتبعها نكبات، وكيف ستكون فيها؟ وكيف هو قلبك حينها؟ ويا للغبطة لمن أعطاه الله الحكمة والقلب الصامد الصافي أيامها!
هي أيام الابتلاءات؛ لأنها سُنة الله في كونه، وهي كذلك أرادها -سبحانه- أن تكون، ونحن فيها مستسلمين خاضعين، راضين بما قدر وقضى.. يقول تعالى: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم"، ولو شاء الله أن يكون الأمر غير ذلك لكان ولكنا نحن الآخرين تحت حكمه وسُنته، لا مبدل لأمره سبحانه.
وهي أيام المجاهدات والمحن، وماذا تكون الحياة إن كانت مجرد نعيم ونوم وكسل، دون آلام وإقدام وتضحيات؟
ولعِلمنا، فالإقدام على المحن في حد ذاته حياة، والرضا بالهزيل وعدم خوض الغمار هو نفسه الموت والانتحار، فلا ألم ولا معاناة في الموت.
وهنا، نستحضر ما سطره عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد": "إن الهرب من الموت موت، وطلب الموت حياة، ولو عرفتم أن الخوف من التعب تعب، وأن الإقدام على التعب راحة، لَفطنتم أن الحرية هي شجرة الخلد، وسُقياها قطرات الدم المسفوح، ولو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد الجروح لا بوسامات الظالمين".
هي أيام الألم، سر وجودنا الإنساني، به -أي الألم- نستشعر إنسانيتنا التي تفترق عن باقي الجمادات التي لا تخاف ولا تجزع ولا تدعو ولا تصبر.. في كل ضربة نتلقاها ثمة استشعار بالإنسان فينا، هناك استشعار بالخوف والترقب والتردد مع الدعاء والأمل والشك، وهذا الإحساس الإنساني لا يتأتى إلا بالألم والمعاناة، وهو خاص بالإنسان.
وهو -أي الألم- سر إيماننا بالغيب وبالجزاء الأخروي، إيماناً بالله وأسمائه وصفاته وإيماناً بأن هناك أمراً عنده -سبحانه- مختلفاً تماماً عما نعيشه.
من ذا الذي يدفع المؤمن للصبر على كل ضربات البلاء ويجعله راضياً بما قسمه الله ولو كان يعيش عذاباً يجعله تحت الأنين؟ ومن ذا الذي يجعل الإنسان مستعداً ليُقطّع لحمه ويموت جسدياً ولا يهمه الأمر في شيء ولنا في هذا الأمر قصص كثيرة؟
طبعاً، هو إيمانه بالغيب واحتسابه عن كل تلك الأشواك حسنات عند الله عز وجل، وإلا كان التعامل مختلفاً مغايراً؛ هو إيمانه العميق الذي يجعله محتسباً صابراً على كل تلك الآلام؛ إيمانه بأن ما عند الله من فضل هو خير وأبقى وأن هناك آخرة هي الدار الباقية وما سواها إلى زوال؛ وهو إيمانه بأن النظر إلى وجهه -سبحانه- هي أسمى الأماني وكل شيء في سبيلها هين.
وهي أيام محن أحلامنا، الحلم بعالم جديد يكون فيه العدل والخير هما السواد الأعظم ولا يكون للظالمين فيه من نصيب.. لا كما نعيشه اليوم، القوة فيه للجلادين وجموع الطغاة والضحايا فيه جموع المستضعفين الذين يعانون في مشارق الأرض ومغاربها وبدرجات مختلفة.
الحلم بقيم الإنسانية من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية هي الطاغية والسائدة في العالم، وبقيم المساواة التي لا تفرّق بين متربِّع على العرش وآخر على كرسي حراسة مدرسة أو مؤسسة والحلم بمظاهر الخير والإيثار والحب والمودة بين أفراد المجتمع.
كيف يكون كل هذا الحلم دون ضرائب وتضحيات؟! كيف يكون هذا الحلم واقعاً دون دماء وشهداء؟! ونحن لنا في التاريخ عبرة، وذاك الطريق محفوف بالجماجم والأشلاء.
إنها محنٌ، تلك الأحلام الوردية التي تنتابنا ولا يمكن أن نُطلقها يوماً.
أيام البلاء كثيرة وهي تحيط بكل إنسان ها هنا، لكن حسبنا أنها أيام متداولة بين الجميع لا تستثني أحداً، وهي أيام نأمل منها ونرجو عن طريقها أن تصقل معادننا ونكون خيراً مما كنا عليه من قبل، فنكون مستخدَمين فيما أراده الله من خير على أرضه، هذا الاستخدام الذي -لا بد- أن يمر ببلاء وصبر قلّ نظيره.
وعن تلك المحن -أي محن البلاء- هناك شوط آخر وهو المتعلق بتدبيرها وعيش أطوارها وهي التي تجعل الإنسان صنفين، كل في واد.
في أيام البلاء تكون لحظة الجزع والخوف والتردد، لكن في تلك اللحظة نفسها يكون الحسم والفصل؛ فإما أن تختار هذا الطريق وإما ذاك، واللبيب من كان على حذر ولا يقْدم على أمر حتى يعلم يقيناً عواقبه في الدنيا والآخرة، ويزن الأمور بميزان الحق والعقل ويغلِّب ما هو باقٍ على ما هو زائل ويستحضر حقيقة الدنيا -التي لا تعدو أن تكون حقيرة- ويستحضر أسماء الله وصفاته.
في تلك اللحظة، إما أن يختار الإنسان أسهل طريق وأيسرها، لكنه يكون اختار أهونها -وخاب من اختار هذا الطريق- يحاول جاهداً أن ينجو ببدنه ويلهث نحو النعيم ولو كان الأمر على حساب دينه وسخط الله سبحانه، لا يهمه في هذا الخيار إلا الهروب من البلاء والعودة إلى ما كان عليه من رغد عيش ولا يهم أي وسيلة اختار، فهو يعيش بمبدأ: الغاية تبرر الوسيلة.
وإما أن هذ المُبتلى يختار الصبر على كل تلك الضربات -وكم هي مؤلمة ضربات البلاء!- في سبيل ما عند الله، وما عنده سبحانه خير وأبقى، ويكون همه هو أن يلقى الله وهو راضٍ عنه ولا يهم الباقي في شيء.
يختار هذا المبتلى أن يكون معاكساً لجموع الظالمين والمستكبرين ومنتسباً إلى جموع الصديقين والشهداء، ويتقرب من الله بتحري الصدق والصبر على كل تلك الآلام والتضحيات ويدور حيث دار الحق، هذا ولو كان الأمر على حساب التضحية ببدنه وحياته.
والسعيد من حذا حذو هذا الأخير وسلك هذا السبيل في أيام البلاء والمحن التي ولا بد منها
في العيش مع أيام البلاء: إما أن يختار الإنسان أن يكون في عليين، ينال رضا الله وعفوه وتشمله رحمته، وإما أن يكون في سافلين، يبيع دينه بعرَض من الدنيا ونعيم زائف، ويندم على ما قدّم أشد ندم وهو الذي كان مُخيّراً بين أمْرين وكان قادراً على اتخاذ القرار الصائب، لكنه اختار الشقاء فخاب وخسر، وغرّته الحياة الدنيا بزيفها وزخارفها قبل أن تتنكّر له وتتركه وحيداً يواجه المصير والسؤال.
والعبرة ها هُنا، لا بكثرة المِحن والبلاء فهي ولا بد منها ولا مفر، ولو أمعنت النظر في أحوال الناس لوجدت البلاء ما ترك أحداً يمشي على الأرض، ولولا ستر الله لرأيت العجب العجاب، لكنها رحمته سبحانه ولطفه بعباده.
لكن العبرة بالعمل وكيف عشت تلك اللحظة وكيف نسجت نتيجتها، العبرة في نياتك التي كانت ومدى حضور إيمانك واحتسابك، وكيف كنت تستقبل كل تلك الضربات الموجعة.
ولتحدثك نفسك عن انتصاراتك وهزائمك فيما مضى وماذا أعددت لها في قادم الأيام من زاد وعتاد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.