جنون الأفكار، وخيالات الماضي البعيد تأخذنا بعيداً، بعيداً جداً عن عالم الواقع المؤلم، أما كلمات الصمت الرهيبة على الشفاه المحنقة، فإن لها تفسيراً خاصاً، يصعق الناظر بالكلام الأبدي المخفي في بحر خاص في الهاوية، ولدت لأرى سماء زرقاء بأرضية بيضاء فاخرة، ولكن عند النظر بزاوية أخرى نزولاً لعالمي الحقيقي، رأيت الحقد والكراهية، ربما لم يكن هو ذاك، ربما كانت ملامح وجوههم تفسر سعادة مكتومة أو قلباً زمردياً طار من الفرح.
كبر ذلك الصغير، وترعرع على سفن القهر، ليكون شخصية مثالية وحباً واسع الحدود، عندما عجز الميزان عن أن يرفع أكف العدل تجاه رضيع صغير، اكتنفتني أمي بالحب الخالص وأرضعتني إياه بكبرياء الحنان، كان عملها الدؤوب نبراساً لاستمرارية حياتي، لم نحتج يوماً إلى أحد، ولم نستجدِ أحداً يوماً إن كان أطعمنا أو رفض، بين يدي أمي التي أنهكها التعب، وتشرب الماء البارد عروقها، فأصبحت خضراء بارزةً، تحاكي لذة العيش الكريم بصمت.
كبرت وكبرت معي تساؤلاتي الواهمة، وأسئلتي الطفولية العابرة، من هو والدي الحقيقي؟ ولم نحن نصارع القهر والحرمان يا أمي؟ فكانت تجيبني بابتسامة المتعب، وتقول: "لما تكبر بتعرف يا ابني"، كبرت وزادت شفرة اللغز، وتعقدت الكلمات إلى أن وصلت درجة الهاوية.
ها قد جاء ابن الخادمة، "امسح وكنس"، فكانت تنشب بيننا العديد من المشاجرات؛ لذا لم أكن محظوظاً بصداقة فعلية تخفف عليّ ألم الحياة، كانت حياتي قطعاً مبعثرة، ورياحاً هوجاء في صحراء قاحلة، حتى إنني لجأت لحقن السعادة المؤقتة، ودمار شامل مخيف، لجأت لها علّ فيها الشفاء من مرض عضال أثقل كاهلي، وفي يوم من أيام أبريل/نيسان، دخلت المنزل بقلب محروق، وشرارة غضب عارمة، كنت وقتها تحت تأثير المخدرات، دخلت البيت فاستقبلتني والدتي بابتسامتها المعتادة، وقتها صفعتها على خدها فسال دمها الطاهر من فمها، صفعت تعب السنوات والحمل والرضاع، ويا ليتها كانت القاضية، دخلت غرفتي وهي خارجاً تبكي، وأنا أنازع بين الضمير والأنا، وقتلني العذاب.
لم أدرِ كيف ذهب الليل مخلفاً آثاره للأبد، استيقظت على صوت جميل، لم أدرِ ما هي لكنة المتكلم ولا لغته، إلا بعد حين، تبينت أنه الفجر وأن هذا هو الأذان لا محالة، هرعت لأمي وطرقت باب غرفتها وما إن لم يفتح دفعت الباب بقوة القلق الرهيب، فرأيتها ملاصقةً بسجادتها تناجي ربها، وحينها أخذتني ذكرياتي للوراء، تذكرت زلاتي وأخطائي، ومرّ شريط الذاكرة سريعاً في مخيلتي، أتذكر آخر مرة ركعت فيها لله ركعة، فهرعت لأمي أرى حالها فإذا بي أرى ذلك المصحف، فأخذته أقرأ وأرتل بين صفحاته، أقرأ تلك الرسائل الربانية وأخذ قلبي يعتصر من الألم، أما دموعي فكونت نهراً دفاقاً، يروي العالم بخيراته.
كيف أعود إليك يا ربّ بعد أن جرني الفساد نحو الهاوية، كيف الوصول إلى النور؟ وكيف الخلاص من ضيق الحياة وصعب الأمور؟ إلى أن جاءت تلك الآية " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين"، إذاً كانت الصلاة هي سبب صبر أمي رغم ضعفها، سبب تحملها إياي، وبدأت بالصلاة فإذا بها تراقبني بسرور وكأنها النشوة المنتظرة، والهداية الربانية المبتغاة، وما إن انتهيت حتى قبَّلتني وركعت عند أقدامها أتوسل السماحة فقالت: "وهل للحزن منك سبيل؟"، بعدها تغيَّرت حياتي وكأنني انتشلت من القبر لعالم رائع حلو المذاق، واهتممت بدراستي، وارتقت بي الأسباب، حتى صرت طالباً في كلية الطب، أرى الفخر في عيني والدتي، وأقتنص العجب من وجوه حُسادي، وما هي إلا سنوات حتى ارتديت ثوب التخرج، على وقع زغاريد الغالية.
ليلتها أخبرتني بالصاعقة، وقصة الميراث المؤلم، وحدثتني عن والدي لأول مرة طوال سنين حياتي، توفي والدي تاركاً لنا أموالاً وفيرة، تنجينا الفقر والفاقة بعده، لكن أعمامي الذين أتمنى لو أقتلهم؛ لأخلص العالم من وحوش الكائنات، أخذوا كل ما خلَّف والدي وراءه، ونبذوا أمي في العراء وحيدة من غير سقف يحميها من عواصف القدر، فباتت أمي أسيرة الظلام، وأخذت تعمل ليل نهار حتى تؤمّن لي عيشة سعيدة وأحلاماً مديدة، حينها احتضنتها بقوة، وقبَّلت وجنتَيها بحب، لم أكن لأكون لولاك يا سيدة الكون.
ولأن ربي يمهل ولا يهمل، وتلك السنة الكونية العظيمة، الموجودة منذ الأزل، فإن الله ساق لأعمامي صفقةً عقيمة، بعثرت أموالهم مع الريح، وباتوا في الشارع، يستجدون الناس، لم أعلم بحالهم هذا إلا وقت أن جاءني أحدهم عيادتي، فرأى صورة أمي على مكتبي، فراقبها بصمت وبدأت دموعه تداعب وجنتيه نزولا صامتاً، علمت فيما بعد أنه عمي، لم أدرِ ماذا أفعل وما هو الصواب.
أخبرت أمي فقالت إن التسامح من شيم العظام، زلزلت كلماتها كياني، كيف لك أن تسامحيهم بعد كل ذاك؟! فأمرتني بإعطائهم قدراً من المال كافياً لإخراجهم من حالتهم المأساوية، وإعادة الحياة لهم من جديد، أعطيتهم على مضد منّي فتفاجأوا؛ لكوني ذلك الطفل الصغير الذي تمنَّوا موته يوم ولادته، ورغبوا في التخلص منه بأي ثمن.
ربما كانت نجاتي على يد تلك الرسائل الربانية العظيمة، وها أنا على سلالم النجاح، أداوي لحظات الماضي الغابر، من الظلام إلى النور حكاية لمرحلة صعبة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.