عبر صفحة الفيسبوك، شاركني أحد الأصدقاء تدوينةً تُظهر الفارق الكبير والشاسع بين اللغة العربية وباقي اللغات الأخرى، فكان جلياً وواضحاً دون لبس أن اللغة العربية تتغلب على كل اللغات بقوتها وبكَمّها الهائل والتنوع الذي لا مثيل له في أي لغة أخرى.
إلا أن هذه النشوة والحماسة اللتين تملَّكتاني سرعان ما تبددتا وبدوا كأنهما ابتسامة حزينة وفرح ببيت يقبع في حي تلفه الأحزان والمآسي؛ كيف لهذه اللغة العظيمة أن تتجاهل أحلام شعوبها ولا تجد ما يعبر عن أحلام هذه الشعوب التي تتوق إلى الحرية والعدالة؟! كيف لهذه اللغة أن تعجز عن إرسال مفرداتها لنشيد يتغنى به أبناء العروبة في أقطارهم كافة؟!
وبنظرة سريعة للنشيد الوطني لأكبر الأقطار العربية، ستجد كل ما يدغدغ مشاعر هذا الشعب وشعوبنا الشرقية عموماً، من بطولات وحماسة لأوطاننا، إلا أن هذا النشيد لم يحمل بين كلماته أياً من معاني الحرية والعدالة؛ هل كُتب على المصريين أن يكرروا ويجترُّوا مفردات التضحية لأجل الوطن؟ وأي وطن هذا الذي يضحي بأبنائه؟! وفي سبيل ماذا؟! ومن أجل من؟!
كلا.. إنها مفردات وبعض أبيات انتقاها زعماء، ومن يقف على هرم السلطة، معلنين -وبصراحة- ما سيُقدَّم لهذا الشعب وما سيبتلعه، وسيكون للمحرمات نصيب لا بأس به في عملية اختيار النشيد الوطني.
أما الحرية والعدالة، فهما منبوذتان ومحرمتان وليستا جديرتين بالذكر والاحترام؛ بل تصنفان بخانة الخيانة والتآمر، لا ذكر لما يصون ويحفظ كرامة المواطن والمواطنة، أو يعلي شأن هذا المسكين الكادح؛ أوليس هذا المسكين هو الذي يبني أوطانه؟! أوليس هو من يحمي وطنه؟! ألا يملك هذا المواطن الكادح المسحوق أن يحصل على ذكر لما يردده تلاميذ أوطاننا صباح مساء؟! ألم يحِن الوقت ليردد أبناؤنا نشيداً صادقاً يرونه بأم أعينهم؛ بل ويلامسونه في حياتهم اليومية؟!
هل أخطأ الألمان عند ذكرهم المرأة الألمانية والحرية والعدالة بالنشيد الوطني وتغنّوا بها؟! أم أصاب الفرنسيين الصممُ، عندما تحدثوا عن العدالة والحرية، ورددوهما في كل الأناشيد وبشكل متكرر، ليذكراهم بحقوقهم التي كُتبت بماء من ذهب؛ فيما تغنى وردد الطالب السوري على مدار عقود نشيد "حماة الديار"، وكأن سوريا الوطن اختزلت بالجيش أو ما يسمى "حماة الديار"!
كيف لهذا المواطن أن يسهم في بناء وطن بعد أن أصبح الجيش وقواته المسلحة المثل الأعلى في عيون أطفاله؟! أين حقوق هذا المواطن المردد لهذه الكلمات؟! هل كُتب عليه أن يُظهر مواهبه الإنشادية في سبيل غيره؟! ولك تتصور نوع المواطَنة وجودتها حينما تنكشف أمام الطفل السوري حقيقة جيشه وهزائمه المتكررة اللانهائية وينكشف زيف ما لقَّنوه من أناشيد وكلمات بعيدة كل البعد عن الواقع.
وكي نرسم صورة واضحة، صريحة وصادقة، لأوطاننا العربية كافة، لا بد لنا أن نشير إلى أقطارنا العربية كافة، فها هي الممالك العربية تنشد صباح مساء، تمجيداً وتحميداً بمَلِك الوطن؛ كيف لا وقد اختُزل الوطن بشخص المَلِك، ومناقبه الكمالية اللامتناهية! لعل هذه الممالك اتخذت من النشيد الوطني البريطاني أنموذجاً يحتذى به، فيما تناست المناقب البريطانية كافة من حريات وعدالة وفصل للسلطات!
هذا إن دل فإنما يدل ويثبت أن النشيد الوطني إن هو إلا عملية تثقيفية للمجتمعات العربية، القائمة على الانتقائية وتحييد حقوق المواطن؛ بل ومنع ذكرها بالقصائد والأشعار المنقوصة والمحرَّفة أحياناً، في سبيل خدمة مشاريع سلطوية فردية لا تقيم أي وزن للمواطن والمواطِنة وحقوقهما البديهية؛ بل لا تحتسبهما في المعادلات والميادين كافة باستثناء فصل التضحيات وتقديم الشهداء وخدمة الأوطان.
فهلا تمعَّنتم في النشيد الوطني الفلسطيني، الذي تغنى بالفدائية والفدائيين؛ بل وأحاط الفدائيين بهالة تقديس في سبيل تحرير الأوطان متناسيةً حقوق الأفراد والمواطنين؛ فحركة التحرير الوطنية "فتح" هي تلك التي اختارت وصدَّقت على هذا النشيد عندما كانت حركة تحرير مقاوِمة.
في الواقع، أصبح الفداء والفدائيون من الماضي، ولو خرج أحدهم من مقبرة الأرقام الإسرائيلية، فسيُتَّهم بالعمالة وتعطيل المشروع الوطني، وطبعاً سيُتَّهم بمحاولة تدمير الإنجازات التي تحققت بفضل نشيد لم يعد منه سوى بعض الألحان التي يطرب لها بعض الراقصين على موائد الأوطان.
مسكينةٌ لغتنا الجميلة العظيمة؛ فهي تظهر بأسوأ حال وتلبس لباس التضحيات في سبيل الأوطان ولباس التهليل والتقديس لملوك وزعماء لا يستحقونها!
نعم، لقد أُصيبت لغتنا الولود بالعقم بفعل فاعل، ولم تقدم لناطقيها سوى الكلمات المتبوعة بالألم والفراق، يا لحزن هذه العظيمة! لم يقطف من ثمارها سوى ما يجلب الشقاء والمآسي؛ فيما قدمت اللغات الأخرى الأقل شأناً مزيجاً من الحريات والعدالة ومزيداً من الحقوق والكفالة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.