عندما تفوق الشمبانزي على طلاب الجامعات الأوروبية

كان أحياناً يعقد اختباراً بسيطاً (خيارين لكل سؤال) للعاملين في مجال الصحة العالمية عن وضع دول العالم الثالث الصحي؛ حيث يميل معظم الناس لتوقع الأسوأ مما يتسبب في حصولهم على أقل من 50% من درجة الاختبار (لو خيرنا مجموعة من الشمبانزي فإنها ستختار نصف الإجابات الصحيحة عشوائياً!).

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/28 الساعة 02:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/28 الساعة 02:11 بتوقيت غرينتش

هل تعلم أن قرود الشمبانزي ستتفوق عليك إن نافستها في اختبار عن الواقع الصحي لدول العالم؟!

في ذكرى الراحل المقيم د. هانز روزلينغ أستاذ الأمل الواقعي
هانز روزلينغ طبيب سويدي تميز بقدرته الرهيبة على تغيير القناعات المسبقة عن واقع الصحة والتنمية في العالم، مستنداً على الإحصائيات والأرقام، استضيف في مؤتمرات TED العالمية وغيرها مرات عديدة، وفي كل مرة كان يستخدم أدوات بسيطة ليتحدى أفكار الحاضرين، فمرة حجارة على قارعة رصيف؛ ليبين توزيع الثروة في العالم، ومرة صناديق بلاستيكية كبيرة يشرح بها نمو أعداد البشر، عدا المرة التي ابتلع فيها سيفاً كاملاً في نهاية حديثه عن أهمية الثقافة والتقاليد المحلية وأثرها على صحة الناس.

مهارات د. روزلينغ في إيصال المعلومات كانت وسيلته في هدم ما بدا له جداراً من الجهل أو التجاهل بواقع دول العالم الثالث، فكثير من الحلول المقترحة لمشاكل الصحة والتنمية العالمية مبنية على افتراضات لا أساس لها، بل إنه كان أحياناً يعقد اختباراً بسيطاً (خيارين لكل سؤال) للعاملين في مجال الصحة العالمية عن وضع دول العالم الثالث الصحي؛ حيث يميل معظم الناس لتوقع الأسوأ مما يتسبب في حصولهم على أقل من 50% من درجة الاختبار (لو خيرنا مجموعة من الشمبانزي فإنها ستختار نصف الإجابات الصحيحة عشوائياً!).

لم يتوقف د. روزلينغ عند مجرد إلقاء المعلومات على المسامع، بل صمم مع ابنه برنامجاً (Gapminder) يتيح لغير المتخصصين الاطلاع على الإحصائيات العالمية من غير الخوض في تفاصيل مملة في تقارير مطولة، فبإمكانك أن تقارن متوسط الأعمار لأي دولة تقريباً وتطوره خلال المائة سنة الأخيرة مع ربط التغيرات بمستوى دخل الفرد في كل دولة، وجود مثل هذه المعلومة يسهل على متخذي القرار والمهتمين بالشأن العام أن يطوروا رؤية أفضل لواقع العالم، وأن يقترحوا حلولاً بناء على تلك الرؤى.

ورغم أنه طبيب، فإن كثيراً من أحاديثه كانت تدور حول الأوضاع التنموية كاستعمال الطاقة وتوزيع الثروات ومعدل الولادات، ولا عجب فعدا عن تخصصه مجال الصحة العامة (التي يربطها بالتنمية ميثاق غليظ)، فإن أول شهرته كانت في اكتشاف شلل عصبي انتشر بسبب مجاعة أدت بالمتضررين لتناول نبات الكسافا قبل معالجته بالشكل المناسب، وقد حرص د. هانز على شرح علاقة التحسن الاقتصادي بالصحة، وكيف أن البلدان التي بدأ فيها التحسن الصحي مبكراً تسارعت فيها وتيرة الاقتصاد بشكل أكبر من البلدان التي اغتنت أولاً.

كتبت هذا المقال؛ لأني مثل كثيرين تأثرت بهذا العالم والمتحدث البارع ذي الرؤية الواقعية للعالم، لم يمنعه تقدمه في العمر من التنقل في كل دول العالم مناقشاً ومحاضراً، وكان خفيفاً إلى عمق أزمة الإيبولا (وباء قاتل سبب أزمة عالمية مؤخراً) داعماً ومشجعاً للطاقم الصحي هناك، ومبيناً للعالم عمق الوباء، وحاثاً المجتمع الدولي على القيام بواجبه في الحدث.

تعودنا على النظرة المحبطة للعالم عموماً ولدولنا المصنفة دول عالم ثالث خصوصاً، بل أصبح من المعتاد أن نحس أن هذا هو الوضع الافتراضي والمستمر، وليست تلك بنظرة مبالغة على السطح (فكر في كل تقارير الفساد والفقر والتعليم المتدني والصحة المتردية)، ولكن د. روزلينغ تفنن في نقض تلك الافتراضات فكل مؤشرات الصحة والثروة تحسنت على مستوى العالم عموماً، بل إن معدل التحسن في الدول الفقيرة أسرع بكثير من مثيلاتها الغنية عندما كانت في نفس المرحلة سابقاً، تناقصت نسبة الفقر المدقع (Extreme poverty) مما يقدر بـ70% عام 1900 إلى 12% في عام 2015، كما أن بعض الأمراض تم القضاء عليها تماماً بسبب انتشار تطعيمات الأطفال.
على صعيد عملي، فإن النظرة المعتمدة على الأرقام تساعدنا على اتخاذ قرارات أفضل، سواء كنا حكومات أو مهتمين بالشأن العام (باستلهام حلول لمشكلاتنا من واقع مشابه)، أو حتى مؤسسات ربحية (حيث نقتنص الفرص المستحدثة بدلاً عن التركيز على الأسواق التقليدية)، وسأحاول أن أدعم الفكرة بمثال واقعي:
لنبدأ بصحة الأمهات: تخيلـ/ـي أن يقرر محسن ما أن يدفع مليار دولار لمنع وفيات الأمهات عن الولادة في بلد آسيوي فقير، البديهي (والخطأ) أن يسارع لبناء مستشفى حديث ومجهز جيداً لأمراض النساء الولادة، ربما يخدم سكان مدينة لا يتجاوزون الآلاف كل سنة، لكن لو اعتمد على رؤية أكثر عمقاً، لربما علم أن الوفيات عند الولادة تحدث أكثر عند الأمهات الأصغر سناً، وحينها كان من الأفضل دعم تغيير مناهج التعليم أو تصميم حملات توعوية بالسن المناسبة صحياً للزواج والحمل، مما ينقذ أجيال البلاد بنفس التكلفة.

مثال آخر في مجال الأعمال والتنمية نشأت ظاهرة ما يعرف بالـ Leap-forging (ولنترجمها قفز أو اختصار المراحل)؛ حيث نتجاوز طرقاً تقليدية أكثر تكلفة وأقل فاعلية للوصول للنتائج المرغوبة، مثال ذلك تجد في بعض الدول الإفريقية أنهم قفزوا مباشرة لاستعمال الهواتف النقالة (الخليوية) بدل المرور بالهاتف الأرضي الثابت، مما أثر بشكل إيجابي على معدلات التنمية، وسهل نشر المعلومات الصحية، بل إن بعض الدول أصبحت تستخدم آلية تحويل الرصيد للدفع الآمن بدل التعرض لخطر نقل الأموال الورقية.
ترى كيف سيتصرف المستثمرون القادمون لبعض دول إفريقيا الصاعدة حين يعلمون بأن الطريقة المتبعة في دفع الأموال مختلفة، ولا تحتاج لبنية تحتية كالموجودة لديهم في بلادهم، ترى هل سنرى نماذج أعمال مبتكرة وقابلة للتطور لتلحق بالنموذج الإفريقي؟

نجاح بهذا الشكل لن يتم تسليط الضوء عليه بمقدار تغطية أخبار بوكو حرام مثلاً، ولذا وجب على المهتمين بالتنمية والاستثمار في دول العالم الثالث أن يستعينوا بما توفر من مصادر مثل Gapminder ليشكلوا رؤية أقرب للواقع.

من الطبيعي أن ننشغل بالأحداث اليومية (السيئة في معظمها)، لكن يجب ألا ننسى التحسن الهائل الذي أنجزته البشرية خلال المائة سنة الأخيرة، جميل أن تتعلق بالماضي وذكرياته، والأجمل أن نتطلع لمستقبل مشرق للبشرية، مستندين إلى رؤية أكثر واقعية للعالم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد