بيت برتبة زنزانة

حاولت جاهدة التفكير في سر اختفاء النوافذ هُنا، ولكن عجباً وعجزاً يقف دماغي حائراً بأي اتجاه يختار أم يحتار، قد سكنت مرة بيتاً نافذته تُشبه نافذة الحبس الانفرادي؛ مُربع صغير جداً أضلاعه المتساوية لا يتجاوز طولها الثلاثين سم، وارتفاعه ما بينه وبين الأرض يحتاج سلماً لفتحه أو إغلاقه، وقفت ذات مرة أفكر لِمَ قد يُفكر صاحب البيت بتعذيبنا هكذا؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/28 الساعة 02:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/28 الساعة 02:17 بتوقيت غرينتش

لا يُنكر أحدنا أن عمره الصغير مزدحم جداً بالأحداث، لطالما حسدتُ القُدامى وكبار السن على ذكرياتهم وأحاديثهم وقصصهم التي يتشوق أحدنا لسماعها ألف مرة دون ملل؛ عن تفاصيل هجرتهم إن هاجروا وما يتخللها من فقر وجوع ومُغامرة أو غنى وحكمة وحظ.

تجذبنا تلك الرائحة لكل كبير في السن، ويأسرنا سرده العفوي لعُكاز أبجديته وللأحداث بالصوت والصورة، فنبتسم حين يضحك ونحزن إن ارتجفت شفتاه وزُمَّتا لوعة وحسرة على ذِكر أرضٍ سُرقت أو بقرة ماتت!

أُمعن النظر قليلاً في شريط حياتي الحالي، وما به من تفاصيل تصلُح أن أُشاركها يوماً ما حين أعاني من ضعف في البصر، وصلع في الرأس، وأتعلق بآخر ضرس لي نجا من الإعدام الجماعي لسُكان فكّي السُفلي، أتدرب على دوري الذي سيأسر أحفادي يوماً ما فأنا لا أملك أرضاً لتُسلب ولا بقرة لتموت.

الحقيقة أنني لا أملك شيئاً مميزاً حتى هذه اللحظة سوى تفصيل صغير جداً، لا أدري إن كان مُهماً أو مُضحكاً، ولكني أظن أنني سأشاركهم حقيقة أني أعيش في مدينة تُعاني نقصاً في النوافذ، لا أبالغ فأنا أعيش في مدينة نبحث بها عن بيت أو شقة مهما كانت سيئة، ولكننا نبحث عن نافذة، النافذة هُنا تُشبه الكنز، من يملك نافذة في بيته فهو صدقاً حبيب الملايين من الشعب والأمة والجيران والأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء حتى!

حاولت جاهدة التفكير في سر اختفاء النوافذ هُنا، ولكن عجباً وعجزاً يقف دماغي حائراً بأي اتجاه يختار أم يحتار، قد سكنت مرة بيتاً نافذته تُشبه نافذة الحبس الانفرادي؛ مُربع صغير جداً أضلاعه المتساوية لا يتجاوز طولها الثلاثين سم، وارتفاعه ما بينه وبين الأرض يحتاج سلماً لفتحه أو إغلاقه، وقفت ذات مرة أفكر لِمَ قد يُفكر صاحب البيت بتعذيبنا هكذا؟ ما الخطر الذي يُهدد هذه البناية والذي يُجبره على اتخاذ كل هذه الحيطة والحذر؟! وحين ابتسم لي الحظ وحظيت بنافذة بارتفاع وحجم منطقي كانت تُطل على جدار البناية المجاورة التي تبعد عني نصف متر أو أقل، فلا تُفتح ولا يدخل منها أي شعاع ذهبي؛ تماماً كما البرواز المَنسي في غُربة الحائط خلف الباب، لا يُرى.

وكما تجري العادة، كلما زاد الطلب ارتفعت القيمة، فإن كُنت من مُحبي النوافذ وتطمح لأن تسكن بيتاً به نافذة تُطل على شارع مُغبر مهجور، فأنت بذلك تُنادي بالرفاهية، وللرفاهية ثمن يا صديقي، كُلما زادت النوافذ في الغُرف أصبحت قيمتها أغلى، تماماً كما لو أنها شيء ثمين مُعتق، حتى لو كانت تُطل على مكب النفايات، فهي في النهاية نافذة تستوجب استثمارك.

هل تعلم النافذة أن لها هذه القيمة الجنونية في هذه الرقعة من البلاد؟

المهمة الصعبة؛ هي البحث عن خُرم في الجدار تتسلسل منه أشعة الشمس مختلسة النظر في زوايا المنزل الذي تآكل برطوبته الساكنة، الشمس هُنا على ضخامتها إلا أنها لا ترى، كحرفٍ من الأبجدية ضخم نائم، يُكتب ولا يُنطق؛ يُرى بلا بصر.
أحفادي الأعزاء هل يُمكنكم إعفائي من دور الجدة المُمتعة التي تقُص عليكم حكاياتها الشيقة حول عمرها الذهبي، فأنا أعاني نقصاً في الشمس، عظامي تآكلت في سن مُبكرة وذاكرتي مُعتمة بلا ضياء وخمولي يعيش على ضوء المصابيح في عز الظهيرة، نعم يا صغاري هُنا نعيش على ضوء المصباح بالرغم من أن الشمس تنتظرنا في السماء.

هل ترون الشمس كل يوم؟ قولوا لها سلاماً.. وهل تملكون نافذة؟ عانقوها، قبّلوها، نظّفوها واستثمروا كل لحظة تجمع شعاع النظر بإطارها وشُعاعها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد