مرحباً في بداية الحياة! مرحباً بهذا الليل الطويل الذي لا ينقضي بكل سهولة، مرحباً به بكل تفاصيله بنجوم تتلألأ في السماء وقمر محمر بلون الدماء، مرحباً بالارتقاب الذي لا ينتهي، الانتظار هنا يعلن الحداد، الشوق يبعثر الأرواح؛ أجساد أم هي أشلاء؟! مفرقة بين المدن تلك التي خطواتنا صداها لا يزال، مرحباً بمنتصف الليل الذي يعلن انفتاح أبواب القلب والعقل والحنين وكل تفاصيل الحياة مع دخان من سيجارة رفيقة الدرب لم تفارقنا.
تكون هنا، وأنت هناك حيث الروح تسافر في طريق انتهى في رحلتنا ولم ينته من ذاكرتنا، هناك عند الأبواب الخشبية التي تآكلت بعد هجرانها، تلك الشبابيك مظلمة بعدما غادرها ضوء الفانوس، جدران منخورة مثل أجسادنا، خطوط كتفاصيل عروقنا الواضحة بالشوق، شوارع تقطنها الأشباح؛ أشباح أرواح فارقت الحياة وأخرى هاجرت وبقيت ذكرياتها تجول وحيدة ترتقب اللقاء رغم وجودها معنا دون أن تُرى.
هو الليل، وهي الذكريات صور تعود إلينا، هي أيام انطوت من صفحاتنا وسُجلت على أوراق ذكرياتنا التي لا تنتهي، لتعود لتجد وقتها في منتصف الليل مع سكونه الذي يحيطنا، تبقى هائجة، الروح كبحر تترادم موجاته بالصراع الأبدي، تتخللها أحداث واقعنا الذي أصبح ذكرى انطوت، ويوم تشرق الشمس فيه ولا نعلم، لا نعلم ما خبأه الليل الساكن لنا، الأرض مشتعلة أجسادنا وقودها، دماء أطفالنا الزكية شرارتها التي دامت، ولعنات متتالية كأنها صرخات الأمهات الثكالى!
صراع الليل يأتي مع الروح، وصراع الأجساد في بقاع الأرض، لم ولن ولا أعلم هل ينتهي أم تنتهي رحلتي قبل حلول السلام؟! قبل أن تعود القلوب لتصنع الحب في بينها، يعود الضمير وتنتهي رحلة الكراهية، ينتهي القتل، تُهدم تلك السجون التي لمت الأبرياء بعدما كانت لأولئك الذين يصنعون الخراب، تُغسل الروح بماء المطر النقي، وتعود رسالتنا التي بعثنا من أجلها، يعود الليل لهدوء الروح ونومها لا لهيجانها وصراعاتها.
في "قواعد العشق الأربعين" لشمس التبريزي، يكتب عن النقاء فيقول: "إن القذارة الحقيقية تقبع في الداخل. أما القذارة الأخرى فهي تزول بغسلها. ويوجد نوع واحد من القذارة لا يُمكن تطهيرها بالماء النقي، وهو لوثة الكراهية والتعصب التي تلوث الروح. نستطيع أن نُطهر أجسامنا بالزُهد والصيام. لكن الحبّ وحده هو الذي يطهر قلوبنا"، هو الحب، الأخوة، الصحبة الطيبة طريق الحياة.
صوت الكمان يخترق مسامعي في هذا السكون الذي يعتري الليل ولم يعتر الروح، صور من الماضي والحاضر هنا تحكي، سطور بُعثرت من أقلامنا تعود، وطيور حلقت بعيداً بعدما ذُبحت أجسادها، أطفال من الركام تُبعث ولكن! لم تعد روحها، أحداث وروايات وحكايات كلها هنا، في هذا الليل وهذا الزمان وهذا المكان مسرعة، ولكنها في الروح سكاكين من الألم.
رغم كل هذه الأشياء التي تعود إلينا، يمضي الليل مسرعاً وليس مسرعاً، فسنون عادت، وأحداث مرت، ويوم انتهى ليصبح ذكرى ويصير حنيناً وشوقاً في يوم جديد.. خيوط من الذهب تملأ السماء، ونور يبعث من البعيد ليعلن الصباحُ ابتداءه مع صوت الحياة بتغاريد العصافير، تصحو الروح من غفلتها، ليبعث الأمل ويصرخ في صدورنا، الموت وحده انتهاء الحياة، ما زال الطريق أمامنا، لا نعلم، ولكن لنحاول من جديد في يوم جديد.
السلام، الكره، الحب، العطف، الحنين، الذكريات، طريقنا نحن من يحدده بأي اتجاه، دروب الحق ودروب الكره كلها تُعرف، فلسنا مقادين سوى من بحث عن قيود العبودية، نحن المخيَّرون ولسنا مسيَّرين، فالسلام خيارنا والحرب خيارنا، كلها أحداث من صنع أيدي البشر، والتاريخ كتب وذكر وسيبقى يكتب ويذكر، والنهاية حصاد أعمالنا، إن خيراً أو شراً.
أخيراً، وقد تكون آخر الحروف، وقد تكون بداية لحروف ستُخطّ من جديد لا أعلم الرحلة متى تنتهي، لكن ستبقى رسائل الإنسان موجودة وإن رحلنا كلها، واستذكر القول الذي يقول: "فاعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبدًا، واحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غدًا"، لنستذكر أعمالنا، ولنستذكر نهايتنا دوماً كيف وأـن ومتى ستكون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.