في عمق الذوات العاقلة الملتزمة الصائغة للقوانين البشرية دون الطبيعية تقبع ذات عفوية طفولية لا تعترف بالأعراف والقوانين الوضعية، وتنأى بنفسها عن المنزلقات الواصمة والسلبية؛ لتقول في صرخة وجودية انفرادية في الغالب: هذه أنا وكما أريد أنا فلن أجاملكِ أنا.. أناتي أنت وأنت أنا.
تتمرد تلك الطفلة المحشوة بالعبث في كل الأوقات لتصرخ بملء فيها أنها لن تكون بخير حتى تزعج الآخرين بصراخها المتواصل، تجر هذا من قفاه وتترك الآخر ممدداً على الأرض، وتقفز عليه مداً وجزراً بشكل مستفز، مازوشي في الغالب، تجر هذا من أذنه لتلقنه درساً في الرجولة، تبتسم لمن تحب، وتكشر عن أنيابها لكل من سولت له نفسه أن ينقض عليها بصفة الحمَل، تتمهل قبل أن تحكم على الناس، وتقرأ في عيونهم الألغاز، تفهم منها ما تريد هي، وتبعث لهم برسائل تحيلهم على غبائها سجيتها الملفوفة بالذكاء الماكر المبدع، تنظر حولها فتجد طبقات من البشر كل واحدة انعزلت وأخذت لها زاوية، اكتفت بها، وشبعت وغطت القِدر بما فيه حتى لا ينضح في الأوقات غير المناسبة، رأت السياسي يلهث ويلهث بعدما اعترض طريقه العفاريت، قبل أن يعانق تمساحاً وينطلقا بعفا الله عما سلف، ترفض التحكم الذي ضبط أوقاتها على محرر الوقت، وقسّم أوقات فراغها القليلة وملأها بحصص الدعم السوروبان والأباكس اللذين يتقنهما تجار البقالة بالسليقة.
كثيرة هي الفرص التي تستغلها من أجل أن تعود للوراء دون أن تضرب معه موعداً غرامياً مسبقاً، في كل لحظة تنبش فيه كرهاً لا طوعاً كونه البلسم الذي يشفي حاضرها والمستقبل، تتعمد المشي على حافة الرصيف، تتذكر نهر الوالدة لها في الصغر على فعلها هذا، وتتذكر تلك السحبة من بساط الخطر والعبور لضفة الأمان، تتعمد اليوم أن تمشي مثقلة الخطى دون أن تنهر أو تسحب، وهي متأكدة أن خطر الأمس لن يقع بعد أن تمكنت من ضبط مشيتها على حواف أدق من حافة الرصيف فوق درب هذه الحياة.
تعبر الطريق الواسع في لعبة شد الحبل مع السيارات المباغتة، تتعمد إلقاء نفسها أمام سيارة حتى توقف شعر السائق الذي ينزل عليها بوابل من السب دون أن تسمعه، وتكفيها التفاتة نحوه تحمل معها ابتسامة تجعلها متيقنة تمام اليقين أنها أصابت الهدف، يقين يمسح إحساس الخوف ونبضة القلب عند احتباس عجلة السيارة بأخمص إصبع القدم، تطلق زفيراً يفرغ كل ما قد شحن من شعور سلبي من صوت احتكاك من صراخ السائق من كل شيء، وترفع أكتافها في لا مبالاة وتستمر.
نحتاج للسعة حياة حتى نبرأ من داء الأيام، ونحتاج لصفعة عُمر حتى تستقيم جهات الخد المائل بالعاطفة، ونحتاج لوخزة إبرة المخياط حتى نلج من سمها عند المحن، ونحتاج ونحتاج… زهد داخل الجب في الصحراء القاحلة لا يكفي لكي نتوارى وننأى بأنفسنا عن الأيام، ودفعة من يد بدر كافية لترفعنا من فوق أرجوحة نحو الأعلى، وتترك لنا الوقت الكافي حتى نختار مكان السقوط وجهة الضربة بعناية.
تأتي لحظات علينا نشعر بالتخمة ولو قدمت لنا ألذ أطباقنا الشهية، ولو أهدينا الشيء الجميل والحبيب على قلوبنا، ولو سافرنا وجلنا ولو أعطينا ما تمنينا لا نسعد، ونحِن لتلك الوحدة الانكماشية التي تعودنا لنقطة الصفر حيث الأجنة في البطون.
من منا لا يشعر بذلك الدفء في وضعية الجنين؟ من منا لا يستحلي تلك النظرة المطلة من الاستسلام القاتل؟ من منا لا يفشل لا يسقط لا ينكسر لا يخطئ لا ينزوي وراء هواه "المحرم" في صمت حتى يشبع ويرتوي منه؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.