صفحات الماضي

توالت الأحداث وكثر الكذب، وزاد الغياب، واتسعت رقعة الفراغ، ذلك الفراغ الذي جعلني عاجزة عن سماع قصة أخرى، وعن إعطاء فرصة أخيرة لحبك آخر السطور، أدرت وجهي وذهبت مبتعدة، مسرعة لم ألتفت ورائي خوفاً من أن أراه فيتبدد شعوري بالغضب، رحلت وتركته، لكنه اليوم أمامي على حائط الذكريات بصورته العفوية والجميلة وملامحه اللطيفة التي تخفي مظاهر الشيطنة ورائها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/25 الساعة 02:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/25 الساعة 02:58 بتوقيت غرينتش

لقد أصبحت صفحة الفيسبوك الخاصة بي كحائط تعلق عليه ذكرياتي كلما نقرت على الفأرة لأمرر السطور وأتصفح الصور، أتعرقل بهم، أشخاص لا طالما كانوا جزءاً من حياة قريبة، حياة كانوا يشاركونني بطولتها، فكيف لي ألا أعود بذاكراتي إلى تلك الأيام التي مضت؛ حيث كنت أجلس رفقته بالمقهى، فيقوم ليفاجئني بحركاته اللطيفة فترتسم الابتسامة على شفتي رغم حنقي وغضبي من مراوغاته اللامنتهية وقصصه المثيرة؛ لكي يبرر غيابه الأيام الماضية، كان يملك موهبة فريدة في الكذب، ورغم أنني كنت أعلم أنه يكذب أجلس أمامه لأستمع إلى أعذاره الواهية، وهو يتحجج بمرض لم يطله يوماً، ومشاكل صديق لم تحدث يوماً، وبموت عزيز لم يفقده يوماً.

توالت الأحداث وكثر الكذب، وزاد الغياب، واتسعت رقعة الفراغ، ذلك الفراغ الذي جعلني عاجزة عن سماع قصة أخرى، وعن إعطاء فرصة أخيرة لحبك آخر السطور، أدرت وجهي وذهبت مبتعدة، مسرعة لم ألتفت ورائي خوفاً من أن أراه فيتبدد شعوري بالغضب، رحلت وتركته، لكنه اليوم أمامي على حائط الذكريات بصورته العفوية والجميلة وملامحه اللطيفة التي تخفي مظاهر الشيطنة ورائها.

هل اشتقت إليه؟ ربما هرباً من تلك الصورة التي نفضت غبار إعجاب قديم من على جزء من القلب، تعثرت بصورة أخرى أحيت مشاعر الصبا والشوق، صورة الصداقة الجميلة، صداقة الزمن الجميل، زمن لم أفكر فيه كثيراً، كنت دائمة الابتسام والضحك وأنا معهم، أتوسطهم كعادتي كأنني أحتمي بينهم من وقائع الزمن الحالي، كأنني كنت على علم بأنني اليوم سوف أعاني بصمت وحيدة كعادتي، أجلس وقد تشابكت يداي بأيديهم، وكأنني كنت أمتص تلك الطاقة الإيجابية من حضورهم، طاقة دافئة تحتضن فؤادي المجروح الذي كان يعاني ويلات الفراق، فراق أهل أضحت المسافات بيني وبينهم تزداد، كلما زادت السنون، كانوا أهلي عزوتي، رفاقي في الجد واللهو، وشركائي في جرائم جنون الشباب، معهم عشت أحلى الأوقات وبحضرتهم تعلمت الحروف الأولى من مجلد أسرار الحياة، هم بكل بساطة أصدقائي الذين تاهوا وسط متاهة الدنيا، أتمنى لو أن نجتمع يوماً ما وأن أتوسطهم في صورة تقتل كل المسافات.

نقرت مرة ثانية علني أجد نكتة تدغدغ منطقة الضحك المكبوتة لدي، فسقطت داخل بئر مظلمة معتمة لا ترى نوراً ولا يدخلها هواء، حبست أنفاسي داخل صدري المتحجر من أثر الصدمة، سكوت سكون وجوم وصمت، هل هذا هدوء ما قبل العاصفة، لا أسمع إلا ذلك الطنين الحاد داخل أذني، حتى دقات قلبي لم يعد لها صوت، فجأة أحس ببرودة تتحرك من أصابع قدمي إلى أعلى نقطة برأسي، فيرن صوته بأذني وهو يناديني: حبيبتي، كان أول من قالها لي، يناديني بصوته العذب ولكنته الفرنسية الممزوجة بالدارجة المغربية، كنت كأنني أسمع اسمي لأول مرة، أتعرف على تفاصيل وجهي بعينيه، وأتعلم كلمات الغزل بشفتيه، أشعر بأنني أنثى وأنا أمشي ممشوقة القوام بجانبه، يمسك يدي ويجذبني إليه، كأنه يقول للكل هي ملكي، لقد كنت وما زلت تلك الفتاة القوية التي تشبهها شخصية الخيول البرية التي من الصعب جداً أن تروض، لكنني كنت أرضخ وأنا معه لا أعلم لماذا؟ وكيف؟ سوى أنني أجد نفسي وهو يقتادني من مكان إلى آخر دون أن أتكلم.

هل ألقى عليّ تعويذة الحب والرضوخ؟ لم أجد لتصرفاتي تفسيراً وقتها، لم يكن بإمكاني أن أرى الصورة بوضوح وأنا في خضم الأحداث، ربما لو أنني ابتعدت قليلاً لظهرت الصورة بشكل أوضح.

كانت قصتي معه تبدأ بوقت محدد وتنتهي بوقت محدد، بمكالمة هاتفية نصبح عشاقاً، وبرسالة أخرى نصير أعداء، وبتدوينة نحن أصدقاء؛ لـتاتي المكالمة التالية ويعود بنا الشوق لمرحلة الأحباء، فيأخذني معه إلى شتى الأماكن، ويدعوني بزوجتي أمام الرفاق، يجلسني بجانبه وهو يرمق الكل بنظرات الغيرة من أن يعلي أحد عينيه بتجاهي فتصبح السهرة مباراة شقاء، ونعود إلى نقطة الصفر لأعاتبه عما فعل تلك الليلة ونصير أعداء.

تتوالى الأحداث وتمر السنوات، وأنا أشاهده من بعيد وهو يراقبني من بعيد، كأننا صرنا متعلقين ببعض رغم مغامراته العديدة، ورغم تجاربي البسيطة، فإنني في قرارة نفسي كنت متأكدة أنه هناك لم يذهب إلى مكان، كأنني سأعود يوماً ما لأناديه ويناديني وأهاتفه ويهاتفني، إلى أن جاءت تدوينته اليوم… تدوينته الأخيرة "من هذه اللحظة أصبحنا غرباء".

قد أهرب من صور فرحته هذه إلى شيء أشد سوءاً وأثقل وجعاً، وقد يطول كلامي إن شكوت عن نفسي، ولكني سأقف عند هذا الحد، وسأختصر حديثي وكلامي الممزق الذي لا يفهم منه سوى حروفي المبتلة بدمع البكاء.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد