في غار الدهشة: مَهدُ فكرة

كان الأستاذ أسعد طه وهو يستحضر جوهر الفكرة لنَعيها ونصقَلها، يخاطبنا بمقدار ما يخاطب نفسه، يقول إنّ فيها شيئاً يشدّ الإنسان إليها شداً مُحكماً، فنُصغي؛ ليكشف لنا الحكاية في ولاداتها الأولى، يرسلنا إليها، ثمّ يستعيدنا لنصوغَ وإياه حوار الدّهشة وسؤال الشّغف

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/24 الساعة 09:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/24 الساعة 09:13 بتوقيت غرينتش

خرجنا صباح اليوم الثالث للمخيّم، صيّادين، وقد مضى يومان على مكوثنا في رواندا، يومان من إعادة تشكيل ما نعرف، كان هواء الصّباح الطري يداعب لذّتنا الراعشة، والطبيعة بعنفوانها تبدو أكثر اتساعاً وتنوعاً، أما المدى فيُولّد في النفس رهبة خاصّة لا تأتي إلا في لحظات معينة من تجليات الكون والطبيعة، إنها تجربة الصيد الأولى التي تحتكم إلى النتائج، أو لعلّها الرغبة في إثبات قدرتنا والتأكد من الوجود، نبحث طير الدهشة، الذي بمقدوره أن يصطادنا فيُسقط عنّا لقب الصيّادين.

اجتمعنا ثمانية عشر شَغِفاً من منابع متفرقة للدول العربيّة، زهدت بنا بلاد شرق المتوسط كما زهدت بغيرنا، لكننا لم نزهد بالوطن وإنسانه اللّذين كانا دافعاً للكثيرين منا لخوض تجربته في أقطار إفريقيا.

في كوخٍ يغالبه طابع البساطة ومواردها، تفرّقت الأجساد، أما القلوب الممتلئة بالشغف فقد أنصتَتْ إلى النّاسك الذّي وقف في معبد الفكرة، يُحدّثنا كيف نصطادها من فيه الدّهشة.

كان الأستاذ أسعد طه وهو يستحضر جوهر الفكرة لنَعيها ونصقَلها، يخاطبنا بمقدار ما يخاطب نفسه، يقول إنّ فيها شيئاً يشدّ الإنسان إليها شداً مُحكماً، فنُصغي؛ ليكشف لنا الحكاية في ولاداتها الأولى، يرسلنا إليها، ثمّ يستعيدنا لنصوغَ وإياه حوار الدّهشة وسؤال الشّغف.

إنّها ابنة القلق، تدفعنا للرؤية الأكثر وضوحاً، للمعرفة، إنها ليست فقط الجمال المجرّد الذي يدهشنا، ليست فقط المتعة الآنيّة، إنّها حالة مركّبة من المسرّات المسروقة.. هكذا شعرت أنا.

خرجنا صباح اليوم الثالث صيادين، في المخيلة تعكف القيم التّي نراها، التي تدفعنا للصيد، أما العيون فتلتهم ما تورّد لها نوافذ الحافلة، بدت لي الطّبيعة شاسعة، رحبة ومتنوّعة للقدر الذّي لا يمكن أن أستوعبه بمفردي، أما الأرض فبدت لي قويّة، صلبة، غير قابلة للكسر أو التجزئة، لا بدّ أن الطبيعة حرّة قلتُ في مخيلتي. لكن، لا..! عليّ أن أكون أكثر دقّة، لا بدّ أن الطبيعة ليست مُلكاً لأحد.

الفكرة، أنا أبحث عن فكرة أصنع منها حكاية لفيلمٍ وثائقيّ، لماذا تراودني الحريّة؟ أشحتُ بوجهي عن النافذة، كان زملائي يُغنون لعبد الحليم: "جانا الهوى جانا.. ورمانا الهوى رمانا"، وجاء صوت الأستاذ أسعد حين قالوا: "اللي شبكنا يخلصنا" أَجابَهم ضاحكاً.. أنّه فهم ما يرمون إليه وعموماً لا شيء سيخلصنا.. فخَلَصنا إلى الضحك.

بدأت البيوت التي تُقحم نفسها في أمر الطبيعة تقترب، وفي عيوننا تطّل الوجوه السّمراء، كأنّها يقين الحياة هناك. إنّ الأماكن المسكونة تساهم في إعطاء العالم ملامح معينة، هكذا تقول النافذة. أما التّاريخ، فيذكر رواندا في منتصف التسعينيات بثلاثة أشهر دموية خلّفت وراءها مليون قتيل، جراء تأصّل الكراهيّة والعنصرية تجاه أبناء قبيلة التوتسي، أما بعد الإبادة الجماعية فاستطاعت رواندا برعاية الحكومة والمحاكم التقليدية تحقيق المصالحة بين أفراد شعبها لتحقق معها هوية موحدة لأطيافه.

خرجنا إلى الطريق برفقة مترجمين وامرأة، كانت تستعيد لنا الحكايات من الأماكن التي نتوقف بها، والأماكن الوادعة تنكر كلامها، قلتُ بلا شك: إنّ الأماكن هي البشر، دونهم هي مجردة حتّى لو كانت طاغية الجمال. توقفنا بجانب كنيسة "سان بيير" وبدأت المرأة تحكي لنا: أن مجموعة كبيرة من التوتسيين اختبأوا داخل الكنيسة، إلا أنّهم لم يَسلَموا من الإبادة فقد دخلت ميليشيات الهوتو المتطرفة وقتلتهم، حين اقتربت رأيت هناك على يسار الكنيسة جماجم بشرية تعود إلى الحادثة.

ما أثارني حقاً هو كيف تبدو الأماكن بعد أن تشهد إبادة أهلها، كان من المهم بالنسبة لي أن أدخل الكنيسة، ربما لأجلهم، لأجل الله الذي رأى المذابح في محرابه، سألت المترجم حينها إن كان بالإمكان دخولها، أشار بالإيجاب ورافقني إلى هناك.

كانت امرأة فتيّة تجلس بجانب المدخل، تنظر نحونا بعيون المستفهمين، حدّثها أننا جئنا هنا في سبيل توثيق المصالحة التي قفزت ببلادهم نحو الأفضل، علّ نقل التجربة يُسهم في كونها نموذجاً فاعلاً في إحداث الأثر على أوطاننا.. وعرفنا حينها أنها فقدت أمّها وأباها وإخوتها في الإبادة.

ذُهلتُ من المسافة القصيرة التي تفصلني عن حزنها، شعرت للوهلة الأولى أنني أواجهه بالقدر الذي تواجهه هي، حتى الحقد والغضب. قلت للمترجم: اسألها هل سامحت القتلة؟ أجابت: نعم. نظرتُ نحو عيونها كانت واسعة نقياً بياضها، فيها شيء من الحزم أو القوة ويتوّسطها البؤبؤ المضيء ينظر إلى أبعد مما أرى.. لكنّه كان حزيناً.

طمِعت دهشتي، فطلبتُ من المترجم أن يسألها لماذا قررت أن تسامح؟ فأجابت أنها لو لم تسامح لماتت عارية، وحيدة في حزنها.. عليها أن تسامح لتتغلب على الحزن والحقد والعزلة! تأكدت حينها أن قسوة الحياة تفرض على الإنسان خلق صيغة جديدة تمكنه من اجتيازها، لعّلها صيغة الوهم أو الحلم، فلتكن.. ما دامت تُشعرنا بضرورة الاستمرار والمواصلة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد