يتعلق الغريق بقشة تنقذه من الغرق، ويلهث العطشان التائه خلف سراب يلوح لناظريه الموهومة بالماء المُرتجى، وهكذا تفعل الأمم المأزومة والدول التائهة في معارج الزمن العاجزة عن مواجهة تحديات الواقع، تحسب كل لائحة في سماوات الوهم أملاً ينقذها من مأساتها ويقيلها من عثرتها.
وكم هي كثيرة تلك الأوهام التي تصدّرها المنظمات الرأسمالية الدولية للدول التي يسمونها نامية تأدباً، المتخلفة حقيقةً، والتي للأسف لم يتعلم أغلبها حتى اليوم من تجاربه الأليمة مع تلك المنظمات، رغم أكثر من أربعة عقود من التجارب الفاشلة والتوصيات الحمقاء والأزمات الأليمة!
وإحدى التوصيات الرائجة هذه الأيام، التي تتداولها الكتابات الاقتصادية العلمية كما الصحفية، هي التوصيات بدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة كقاطرة للنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل ومكافحة الفقر، مُستندةً لمبررات ساذجة أساسها النسبة العددية لتلك المنشآت ضمن إجمالي عدد المنشآت الصناعية، ومساهمتها في إجمالي العمالة الصناعية، فحسب بيانات بنك الإسكندرية مثلاً تشكّل المشروعات الصغيرة والمتوسطة على مستوى العالم حوالي 90% من إجمالي عدد المنشآت الصناعية، وتسهم في التوظيف بما يتراوح بين 50 و60% من القوى العاملة، فيما تمثل 90% من إجمالي عدد المنشآت الصناعية في مصر بإسهام في التوظيف يبلغ ثلثي القوى العاملة، و40% من الناتج القومي وثلثي العمالة الصناعية.
ولا ننكر بالطبع أهمية أي نشاط إنتاجي، خصوصاً إذا كان نشاطاً صناعياً سلعياً في اقتصاد سيطرت الأنشطة الخدمية على أكثر من نصف ناتجه المحلي الإجمالي، إلا أن هذا لا يعني التسامح مع ترويج الأوهام حول إمكانية أن تكون تلك النوعية من المشروعات بذاتها "قاطرةً" للنمو والتوظيف ومكافحة الفقر، أي المحرك الرئيسي القائد، كما تزعم المنظمات الدولية التي لا تشير التجربة التاريخية معها إلى أنها ترجو لنا خيراً!
وأول المآخذ على هذه الرؤية هو شكلانيتها الساذجة، فإضفاء أهمية كبيرة على هذا النوع من المشروعات لمجرد نسبته العددية ضمن إجمالي المنشآت هو نوع من الحماقة الرقمية، فبداهةً من الطبيعي والمنطقي رياضياً أن تكون الكيانات الصغيرة أكثر عدداً بكثير من الكيانات الضخمة والعملاقة، فهذه بداهة إحصائية أكثر منها ظاهرة اقتصادية ذات معنى في ذاتها؛ ما يجعلها مسألة طبيعية بغض النظر عن مستوى تطور الاقتصاد نفسه، بل إن منطق تطور الاقتصاد إنما يعمل في الحقيقة ضد هذه الظاهرة، فالتغيّر الهيكلي الذي يمثل الوجه الكيفي للنمو الاقتصادي يفترض الاتجاه للكيانات الضخمة ولهيمنتها على مُجمل الاقتصاد في سياق تعمق عمليتي التركّز والتمركّز الرأسمالي، التي يجمع على ضرورتها قطبا علم الاقتصاد من يمين كلاسيكي ويسار ماركسي!
ثاني المآخذ هو افتراض استقلالية تلك المشروعات فيما تحققه من ناتج وعمالة، فكونها تسهم بنسبة غير هيّنة في كل منهما لا يعطيها أهمية في ذاتها، بحيث يمكن التخطيط لتنميتها في استقلال عن نمو المنشآت الصناعية الضخمة؛ لأن غالبها الأعظم في الحقيقة إنما تعمل في خدمة / ولتغذية / وبتمويل تلك المشروعات الضخمة، فإذا تعثرت الأخيرة أو لم تنم بالدرجة الملائمة؛ فإن تلك المشروعات الصغيرة غالباً ما تخسر وتتقلص، وهو ما يعني أن ما تحققه تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة من ناتج وعمالة ليس نتاجاً مستقلاً لها تحققه بمعزل عن المشروعات الضخمة، بل هو يتحقق كنتاج لنشاط الأخير وفي ارتباطه بها، ما يكشف وهم أن تكون قاطرةً، أي محركاً مستقلاً، لأي شيء في الاقتصاد!
مأخذ ثالث يتمثل في خطأ قياس اقتصادات متخلفة كالاقتصاد المصري على اقتصادات متقدمة كالاقتصاد الياباني أو حتى الصيني، انطلاقاً من الانخداع بمعيار شكلي كحجم المنشأة عمالياً، والوقوع في فخ تجاهل مستوى تطور الاقتصاد بمُجمله وتلك المنشآت نفسها، فلا وجه للمقارنة ولا سبيل للقياس بين منشآت صغيرة ذات طابع حرفي متخلف، أي غير رأسمالي أساساً، ومنشآت رأسمالية صغيرة متطورة أساس صغر حجمها عمالياً هو كثافتها الرأسمالية واعتمادها للتكنولوجيات المتطورة!
أما المأخذ الرابع فجوهره تجاهل أن الاعتماد على تلك المنشآت إنما يعبر عن اليأس من التنمية لا السعي لها ، فالتنمية بمعناها الحديث إنما تتحقق بالتعبئة المُمركزة لرأس المال، والتراكم المُستمر له؛ لتحقيق أعلى إنتاج مُتنامٍ ممكن، بما يوسع جانبي السوق من عرض (سلع وخدمات) وطلب (استهلاك واستثمار)، وهو ما لن تقوده سوى المشروعات الرأسمالية الضخمة، لا الصناعات الصغيرة الحرفية ولا المتوسطة مُنتجة السلع الوسيطة في الغالب، وهكذا فالتركيز على الأخيرة إنما يدفعه السعي للتوفير الإجرائي العاجل لفرص عمل، عجز النظام الاقتصادي القائم عن توفيرها، نتيجة لنموه المُشوه العاجز عن تحقيق التنمية الاقتصادية بنمط تطورها الطبيعي، الذي يشمل تراكماً كمياً لرأس المال في إطار تغيّر كيفي في التنظيمات الإنتاجية، يجمعهما الاتجاه للتركّز والتمركز الرأسمالي، بما يرفع الإنتاجية والكفاءة، ويحقق التوظيف كنتيجة طبيعية بشكل مباشر أو غير مباشر.
يرتبط بما سبق مأخذ خامس، هو تصوّر إمكانية مكافحة الفقر بمعزل عن معالجة قضية الإنتاجية؛ فواحدة من أكبر مشكلات الاقتصاد المصري هي ضعف الإنتاجية به، نتيجة – مع أسباب أخرى – لغلبة المنشآت المتوسطة والصغيرة الحرفية عليه، بما تتميز به من ضعف رأسمالي مادي وبشري، وهو ما يعني أن ما ستوفره تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة من فرص عمل ستكون فرص عمل رديئة منخفضة الإنتاجية والأجر.
أما سادس المآخذ فهو تجاهل مسألة التخطيط الضرورية لأي استراتيجية تنمية جادة، والذي يصعب ويكاد يستحيل لاعتبارات إدارية واقتصادية عديدة مع ذلك التوجه نحو تسييد ذلك النمط القزمي من المنشآت الصناعية، فإذا كانت الحكومة المصرية عاجزة عن توجيه بضع منشآت ضخمة احتكارية – وهذه قضية أخرى – ولو بتخطيط تأشيري لما فيه صالح الاقتصاد القومي، فهل تستطيع توجيه وإدارة مئات آلاف وحتى ملايين المنشآت المتوسطة والصغيرة؟!
المأخذ السابع والأخير هو التعامي عن أن الطريق الوحيد لنجاح تلك الاستراتيجية هو تعميق التبعية للمنشآت الرأسمالية الدولية؛ فالإمكانية الوحيدة لتوفير طلب حقيقي على منتجات تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة هو الارتباط الذليل باحتياجات الشركات متعدية الجنسيات، الذي يغدو بحد ذاته حلماً لا يتحقق سوى برفع مستوى كفاءة وتأهيل تلك المشروعات؛ ليصبح السعي للتبعية – الشر الأعظم بالنسبة لأي اقتصاد – منتهى أملنا ومبلغ سعينا!
وهكذا لا تعدو استراتيجية دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة أن تكون سراباً يحسبه الظمآن ماءً، فيما هو سراب ووهم لن نجني من ورائه سوى مزيد من الفقر والمذلة محلياً ودولياً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.