دون مقدمات وردية راسمة لوحة جميلة لواقع رمادي، نعاني اليوم من مشاكل عديدة لا تكاد تنتهي حتى تظهر أخرى، سببها تخلينا عن أخلاقنا ومبادئنا التي كانت سابقاً محور وجودنا، فأصبح الكل يمدح الماضي ويشتاق له، ويلعن الحاضر ويهرب منه، فسار من حق هذا الأخير أن يرفع دعوى قضائية ضدنا كمتهمين بتدنيسه، فهل الحاضر هو مَن تمرد على الماضي فسار مخالفاً له؟ أم أننا نحن من كان السبب وراء ذلك فحرفنا الأمور وقدمناها على غير شكلها؟
فماذا لو تقدم الحاضر إلى القاضي بدعوى ضدنا؟ فكان هو المطالب بالحق المدني ونحن المتهمين والشهود هم الجوارح، شيء مضحك نعم، لكن لنتابع أطوار المحاكمة.
القاضي: بماذا تطالب أيها الحاضر؟
الحاضر: سيدي القاضي، إني أتهم هؤلاء بتحريفي عنِ الماضي، فبعدما كنت ماضياً جميلاً، أصبحت الآن حاضراً دميماً، وإني لأخاف أن يفقدوني حتى المستقبل.
نحن: سيدي القاضي، في وقت مضى، كانت الشعوب العربية مهد العلوم والحضارات؛ حيث ما زالت خوارزميات أبي عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي تستعمل إلى اليوم في تطبيقات وبرامج أكبر البورصات العالمية، كان الأخ الأكبر قدوة لأخيه الأصغر، وكانت الأخت الكبرى قدوة لأختها الصغرى، كان الصغير يحترم الكبير والعكس، كنَّا نتحاشى الكذب والنفاق، كان الرجل فينا رجلاً والمرأة فينا امرأة، كان المتعلم يتفانى في طلب العلم، والموظف يتفانى في أداء واجبه، ورجل الدين ميسراً لا معسراً، كانت الأفكار الدخيلة لا تجد سبيلاً إلينا؛ حيث كنا نحصِّن أنفسنا بأنفسنا.. فما بالنا اليوم، تغير علينا الحاضر، ففقدنا الماضي الجميل ووصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
الحاضر: لا سيدي القاضي، هم السبب فيما وصلوا إليه اليوم، لقد أصبح طالب العلم منهم كسولاً متهاوناً، لا يجيد الفهم ولا الحفظ، تراه مكتفياً بالأمور السطحية، تاركاً الأمور الجوهرية، حتى سار المثقفون منهم كالعملة النادرة. الأخ الأكبر صار قدوة لأخيه الأصغر بالقول لا بالفعل، حتى فقد شرعية السلطة عليه، أما الأخت الصغرى فأصبحت تنسج علاقات مع الشباب بمباركة وتوجيهات أختها الكبرى، رجل الدين صار يبيع دينه من أجل المال والمناصب حتى أصبح مفعولاً به لا فاعلاً. أين هي نخوة العربي المسلم الإنسان لا البشر (علماً أن درجة إنسان أعلى من درجة بشر).
سيدي.. هؤلاء لا يحملون اليوم من دينهم إلا الاسم، نسوا أن دينهم لا يعني صلاة وزكاة وصوماً فقط، وإنما هو منهاج ومنظومة أخلاق متكاملة ومتناسقة، ضامنة لتطور البشرية وخروجها من حضيض الظلام إلى كنف النور، لقد أفسدوني واتهموني بالتمرد على ماضيهم.
القاضي: ستؤجل شهادة الشهود (الجوارح) إلى أن ينطقها الله -تعالى- في المحكمة العليا فتكون شاهدة لكم أو عليكم، وهنا سيتم النطق بالحكم النهائي، وسيتحمل كل مسؤول مسؤوليته فيما آلت إليه الأمة والحاضر اليوم، فأنا كفرد لا يمكنني أن أبُثَّ أو أحْكُم في هذه القضية؛ لأني مثلكم!
لقد كنا في السابق ننتقد الثقافة الغربية على اعتبارها لا تخدم الجانب الروحي للإنسان فتفقده كُنهَهُ، لكن أصبحنا اليوم حَيارَى مُذبذبين لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء. بسهوٍ منا وجدنا أنفسنا مقيدين بأصداف يصعب التخلص منها كما سهُل علينا وضعها، أفسدنا حاضرنا بأفعالنا وسألنا أنفسنا سؤالاً استنكارياً: مَن أفسده علينا؟ أصبحنا نضرب المثل بأمم خلت؛ لأننا لا نستحق أن نكون نحن مثالاً يحتذى به.
إن الفرد منا لا يحتاج سوى القليل من الذكاء الطفولي ليدرك أننا نحن السبب فيما وصلنا إليه اليوم، وبالتالي فإننا نكتوي بنار أوقدناها غفلة منا، نحن لا ننكِر أنه هناك إيجابيات في حاضرنا، لكن يجب علينا أن نراجع حساباتنا؛ لكي نُعِيد المفقود لا أن نفقد الموجود.
يقول الإمام الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا ** وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ ** ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ ** ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.