تعلمت في عيد ميلادي

تعلمت أن أرى ما وراء الأشياء، وأن أحاور نفسي وأتصالح معها، تعلمت أن الأشخاص الصادقين نعمة، وأن الابتسامة نعمة، وأن العطاء بلا سؤال أجمل، وأن البشر بالرغم من كل شيء ما زالوا يحملون خيراً بداخلهم حتى لو كان صغيراً، بعضنا فقط ابتعد عن نفسه ونسي أنها الأيام يداولها بيننا، يوم لنا وآخر علينا.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/21 الساعة 04:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/21 الساعة 04:23 بتوقيت غرينتش

لطالما كانت لي علاقة غريبة بأعياد ميلادي، بعيداً عن المرض الذي يزورني في هذه المرحلة ويتعبني أجدني وسط دوامة غريبة لا أستوعب فيها ما مضى وما هو حاصل، جل ما أعيه أنني وسط خضم صراع الروح، تنصل مما أنا عليه، ومما يجب أن يكون نقطة تحول، سنة إضافية وماذا بعد؟ ربما لم أولد اليوم؟ ربما ولدت في أول يوم ركضت فيه على رمال البحر مسرعة متحررة من كل شيء حتى هوسي بالاحتمالات وكل البؤس الذي تجلبه ماذا لو.. ماذا لو ولدت عند أول خيبة لي؟

ماذا لو أني ولدت في أحلامي بين هذه الأوراق البالية التي حملت روح الحياة أكثر من أشياء كثيرة أعيشها وأعايشها؟ ماذا لو أن مولدي كان فقط منذ سنين قليلة حين غصت في أكبر خيباتي حين تعلمت الدرس وجعاً تسلل لفؤادي؟ أنهكني وحمل لوهلة قطعة مني، حمل تلك الآمال الكبيرة التي كتمتها بداخلي، وتلك الآهات التي انطلقت في غفلة مني ومن الزمن، لكنه في نفس الوقت أشعل فتيلة صغيرة في درب هو طريقي إلى نفسي، إلى روح أصبحت يوماً تخاف خيالات البشر وما قد يسببونه من أسى، ماذا لو أني ولدت معه؟ يوم حملني طفلة صغيرة متعثرة تدعي القوة فضمني بلا عتاب ولا سؤال، ماذا لو أني أولد كل يوم وأموت في اليوم ألفاً؟

في تلك الليلة أحاول استحضار ما مضى، إنه عمر ما قد مضى وولَّى، لن يعود بالحنين ولا بالندم، لكني أعي أن على القادم أن يكون غير، غير عن أنا المتساهلة التي بنت لنفسها معبداً للحب والسلام، ودعت إليه من كفروا بكل شيء حتى أنفسهم، فدمروا كل شيء ولم يتبقَّ إلا الأطلال، وعبارة: هنا مر الإنسان وترك بصمة، فلم أصبحت بصمة البشر الدمار؟ لم دمرنا حتى أنفسنا؟ لم دمرونا في مسلسل التعليم كي يجعلونا نسخاً رديئة الجودة بالية لا تحمل لوناً؟ لم رضخنا لتلك التفاهات، لعبارات أستاذ أخبرني يوماً أننا رعاع لا نصلح للعلم والتعلم، أخبرني أنه أمير ولا بد من وجود من يسوق له الحمير؟ لم أدرِ يومها لم يحتاج أن يسوقه أحدهم؟

على مشارف سنة جديدة من سنوات العمر الذي لم أطلب يوماً أن يطول بقدر ما أملت أن يكفي لأحلامي، لم يهمني أن أعمر وأجلس عجوزاً بمائة سنة عايشت ما سموه ربيعاً، فانقلب عليهم شتاء القطب الشمالي فعصف لهم بكل شيء، عجوزاً لا مؤنس لها غير ذكريات بعيدة لم تجد حتى الصوت لتحكيها، عجوزاً في زمن نصل فيه الشيخوخة ونحن على أبواب الثلاثين لبؤس ما نعايشه.

أعياد ميلاد للفرحة وأخرى للنسيان، لفرحة الأمل ولقاء من عشنا لابتساماتهم، لأصدق الناس الذي لولا صفاء أرواحهم لاختنقنا وسط عفن البعض، لنسيان أول دمعة وأول كذبة صدقتها وآمنت بعدها أن للأشياء وجوهاً كثيرة غير تلك التي تظهر لنا، حتى أنا في عتمتي لي وجه آخر يسكنه الشجن يقتات على أي ذكرى حزينة شاردة، لنسيان الماضي بأكمله وترك فقط تلك الدروس الكبيرة التي جعلت مني إنسانة اليوم.. أكثر سعادة أقل سذاجة، أكثر قوة وأقل عجزاً، أكثر أملاً وأقل ألماً، أكثر نضجاً من البارحة وأقل رزانة من الغد، تعلمت أن الآمال لا يجب أن تعلق على الآخرين، فلا ذنب لهم إن كنا أضعف من أن نؤمن بأنفسنا ونراهن بكل الآمال عليها.

تعلمت أن الصمت حكمة ومراوغة للزمن، وما قد تحمله كلمة واحدة من تغيير، وأنه إن لم تكن قادراً على كلمة طيبة وعبارات حب صادقة فالصمت أيضاً هنا حكمة، تعلمت أن الحب دواء لكل داء، وأن الأشياء تحدث لأسباب خفية وحدها الرحيم يعرفها، لكل الأشياء التي أخذت مني وبكيت عليها لأبكيها لاحقاً مرة أخرى لكن فرحاً، فرحاً لرحيل من ظننتهم الترياق فكانوا العلة، رحيل من في طريق العمر كان يضعون العثرات، وأنا ظننتهم للطريق يسهلون.

وأنا في طريقي مني إليَّ، رأيت شريط الذكريات الذي حمل في جله أطياف الخمس سنوات الأخيرة الفاصلة في حياتي، تغير الكثير، فحتى أنا لم أعد أحمل نفس النظرة.

تعلمت أن أرى ما وراء الأشياء، وأن أحاور نفسي وأتصالح معها، تعلمت أن الأشخاص الصادقين نعمة، وأن الابتسامة نعمة، وأن العطاء بلا سؤال أجمل، وأن البشر بالرغم من كل شيء ما زالوا يحملون خيراً بداخلهم حتى لو كان صغيراً، بعضنا فقط ابتعد عن نفسه ونسي أنها الأيام يداولها بيننا، يوم لنا وآخر علينا.

تعلمت أن أحب، أن أجرح وأسامح وأنسى، تعلمت أن أولد كل يوم وأنتظر الحياة أن تزورني، تعلمت أن أعيشها في كل التفاصيل من ابتسامة صباح الخير إلى رسالته المسائية.. كل يوم وأنت حبيبتي.. تعلمت من درويش أنه على هذه الأرض ما يستحق الحياة؛ لذا وأنا أخطو خطوة إضافية إلى موتي قررت أن أعيش وأقاتل لسعادتي حتى آخر رمق؛ لأن هذه الحياة تستحق الحياة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد