ما بين كُن فيكُون سرٌّ من أسرارِ الكون

انتشرَ في الآونةِ الأخيرةِ هَوَسٌ أصاب المجتمعات بشدّة ينصبُّ تحت عنوانِ "التّنميةِ البشريّة" أو مصطلح آخر "البرمجة اللغوية العصبيّة" حتى باتت دوراتُ التنميةِ البشريّة تفوقُ الدورات العلميّة والعمليّة لتفقد بزخم إقامتها مضمون الرسالة الحقيقيّة والمعنى الفعليّ لهذا العلم العميق!

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/17 الساعة 04:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/17 الساعة 04:52 بتوقيت غرينتش

في ذلك اليوم بالذّات، وبعد أن تجاوزت الساعة منتصفَ اللّيل، وبينَما فضاءُ الغرفةِ بضيقِه اتّسَع حدّ الفضاء وأضحى سقفُ الغرفةِ أبعد من كواكبه السّيَارة، كانتِ الأفكارُ تسبحُ في فضاءٍ آخر لم يتّسع لهُ عَقلي، كان المكعّب الإسمنتيّ الذّي يحتويني يعجّ بآلافِ الأسئِلةِ الّتي لم تتبلوَر إجابتها حينذاك، ولكّنها كانت تصِلني تِباعاً ضمنَ رسائِلٍ ربّانيّةٍ لا أحد يعلم كيف!

التساؤل الأكبر الذي كان يكرّر نفسه كل مرة (كيف؟) قبل (لماذا؟) وقبل (ماذا بعد؟) وقبل (ليش؟)، جلستُ أراجعُ لأحداثَ تِباعاً وأغزلها في عقلي خيطاً تلوَ الآخر لأتوصّل كلّ مرّةٍ لنتيجةٍ مفادُها "كُن فيكُون".

ما بين الـ"كُن" و"يكون" تصطفّ مصفوفةٌ من التدابيرِ الرّبانيةِ المختارةِ بعِناية لتصِل الهدفَ المرجوّ بنقطة الانطلاق دون أن تسألَ الله ما هو الطريق الذي اختاره لكَ لتسلكه حتى تصِل إلى هذا الهدَف.

انتشرَ في الآونةِ الأخيرةِ هَوَسٌ أصاب المجتمعات بشدّة ينصبُّ تحت عنوانِ "التّنميةِ البشريّة" أو مصطلح آخر "البرمجة اللغوية العصبيّة" حتى باتت دوراتُ التنميةِ البشريّة تفوقُ الدورات العلميّة والعمليّة لتفقد بزخم إقامتها مضمون الرسالة الحقيقيّة والمعنى الفعليّ لهذا العلم العميق! تستقطبُ ثلّةً من الشّبابِ الواعدِ تحقنه بكمٍّ هائلٍ من الشحنِ الإيجابيِّ الحياتيٍّ المفرغُ من الآليّة العمليّة الحقيقيّة للاستفادة الفعليّة في الحياة! تخبرهم أنّهم ولدوا أبطالاً ونجوماً، وأنّهم أسودٌ في الوغى وجلّ ما سيصيبهم هو الشعلة التي تضيء مستقبلهم الباهر، أن ابتسموا لأعداءِ وارسموا الهدف وستصلون له بطاقاتكم الكامنة وإيجابيّتكم والكثير من المعاني المزركشة العذبة التي لا أنكر أنّها تدخل القلب والعقل وتعطِي دافعيّة للتقدّم والعطاء، وبمجرّد أن تنتهي الورشة ويعود هؤلاءِ لصلبِ واقعهم يجدونَ أن الأملَ لا يعطي شهادةً جامعيّة، وأن التفاؤلَ لا يقدّم لهم وظيفة، وأنّ الإيجابيّة لم تفتح لهم مغارة علي بابا ليقتحموا الحياةَ ويغمروها إبداعاً وإنجازاً.

هذه الفجوةُ بينَ ما أريد وما أستطيع أو ما متاحٌ لي أن أفعل، إن لم يتمّ ملؤها بالمفاهيمِ الصّحيحةِ للسعي قدماً نحو عرشِ البطولة المنسوج في أساطير المدرّبينَ تلك فلن تكونَ إلّا هاويةً تتحطّمُ في قعرها أحلامٌ ولدت لتموت.

هل فكّرتَ يوماً أنّكَ تريدُ أمراً ما، وقارنت الواقع بذلك الهدف وأشحتَ وجهك وقلت "مستحيل" وأخبركَ من حولك أن "لا تحلم" وأقنعت نفسكَ أنّك لن تنال مرادك هذا لأنه غير متاح؟! مؤكّد أن كلاً منَّا مرّت هذه اللقطة على سيناريو حياته مراراً وتكراراً!
ولكن.. ماذا لو فكرت فيما تراهُ مستحيلاً وقلتَ "سيحصل" وتجدُ أن الكونَ يسيرُ بآليةٍ أنتَ ذاتُكَ لا تفهمُها وبالمحصّلة "يكون"؟!

شخصيّاً لا تغيبُ عن بالي كلمة "لا تحلمي" التي سمعتُها كثيراً في سياقاتٍ عدّة مرّت في حياتي، سواء بلساني أو قيلت لي من أحدِهم! راودتني كثيراً في تلكَ اللّيلة التي استجمعت فيها تساؤلاتي وقد حقّقتُ حينَها ما كنتُ أراه "مستحيلاً" ذات يوم!

لم أكن أتخيّل يوماً أن تكونَ دعوة متأخرة للعشاء يتبعها تعذّر حضور أهلِ صديقتي لاصطحابها للمنزل واضطرارها للحلولِ ضيفةً عندِي في ذلك المساء، وعبرَ مزحةٍ ودعابة طرحناها دون تخطيط سبباً في سفري لدورةٍ تدريبيّةٍ كنتُ أتمنّاها بشدّة بعد عشرة أيامٍ فقط من تلك "المصادفة"!

ولم أكن أتخيّل أن سرقةَ حقيبَةٍ لي ستكونُ سبباً سخّره الله لي لأصلَ المسجد الحرام رمضاناً وأصلّي التراويح في الكعبة وقد كانت كلمة "عمرة رمضان" أيضاً مستحيلة ونلتُها بسبب "صدفة"!

ولم أكن أتخيّلُ أن كلمةً ذكرتُها في ساعةِ يقينٍ ودون أدنَى خيطٍ من خيوطِ الأملِ أو بوادرِ التحقّق، أخبرتُ بها من حولي أنّي في الشّهر الفلانيّ سأكون في بقعةٍ من بقاعِ الأرضِ ستكونُ سبَباً أن يسخّر الله لي الأحداثَ والأشخاصَ لأكون هناك فعلاً في نيسان الذي لا ينسى.

ولم أكن أتخيّلُ أيضاً أنَّ نبوءات ضئيلة من الماضي ستمدُّ خيوطَها لكفّ المستقبل وتتحقّق بشكلٍ تدريجيٍّ دون أن أشعر كيف امتدَّ هذا الخيط!

تزخر آذانُنا بآلافِ القصص التي تروى يوماً بعد يومٍ عن تحقيقِ الأهدافِ والنّجاحِ الذي بدأ من نقطة "مستحيل"، ولكنّي آثرتُ ذكرَ مواقفَ شخصيّةٍ ليشعرَ كلُّ منّا أن الأمر ليسَ مجرّد كلامٍ على الورق أو حكايات ما قبل النوم في المواقع الإلكترونيّة، وإن كانَ ما أعايشُ لا يشكّلُ نقطةً في بحرِ الواقع، ولا نقطة البداية والنهاية هي فقط كلّ الحكاية ففي داخلها امتدادٌ لعراقيل ومراحلَ وتفرّعاتٌ تودِي بتشكّلها إلى النتيجة النهائيّة.

هل سمِعتُم يوماً عن قانونِ الجذب؟ لستُ هنا بهدف تقديمِ مقالةٍ علميّة ولكِن لأوجز لكم بلغتِي المتواضعة، باختصارٍ ليسَ شامٍلاً هو (أن تفكّر فيما تريد فتحصل عليه) وبمعنى أدقّ (إنما أمرهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقول له كُن فيكون) وبصورة أعمق (حسنُ التوّكل على الله) و(تفاءل بما تهوى يكُن) ولأُضِف عليها (إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى..).

أجلْ هذا هو بحقّ.. ولكن ليسَت هذه كلمات للشّحنِ الإيجابيّ وحقناً تخديريّة لتنام الآن وأنت تقول إنك ستصحو صباحاً لتجدَ أن سيارة أحلامكَ مصفوفة أمامَ منزلكَ مثلاً أو أنك قد حصلتَ على تفوقٍ بلقبكَ الجامعيٍّ وأنت متكاسلٌ حتى عن حضورِ محاضراتكَ والاستعداد لامتحاناتك، بلْ نداء لجعلِ هذه الآليّات طريقاً تشقّه نحو تحقيق ما تريد.

يقول الدكتور صلاح الراشد في كتابه قانون الجذب: "إن قانون الجذب مهمته فقط جذب الفرص نحوك، لكن ليس من مهمته تحقيق ما تريد"، وبالضبط هذا هو عمل هذا القانونُ الكونيُّ العجيب.

توقف عن القراءة هنا قليلاً، سجّل في ورقة بجانبكَ هذه الكلمات "فيلم السرّ"، "كتاب السّر لروندا بايرن"، "كتاب قانون الجذب لمايكل جيه لوسيير" أو "قانون الجذب لصلاح الراشد"، وإن لم تكن من مغرمي القراءة أو لا تملك الوقت لذلك يكفي كلمة البحث "قانون الجذب" في محرك GOOGLE لتطلّع على عالمٍ لم تكن تتخيّلُ يوماً أنّه موجود بحق.

"مش رح أنجح"، "بديش أمرض"، "بديش تفكِش"، "بخاف تِخرَب"، "بخاف تنتحِس" إذا ما حاولنا أن نصنّف العبارات هذه ضمن خانتين إيجابّية وسلبيّة بأي خانةٍ تسقط كلّ تلكَ المصطلحات؟! ماذا لو كانَت كلّ منها عبارةً عن نوع فيروس يصيبُ الإنسان فيمرضُه ويعجزُه؟! حقاً؟! كم هي العلل التي ستصيبه إذاً؟! ماذا لو أخبرتكم أن هذا واقع وأنّ كل تلك المصطلحات السلبيّة تشكّل طاقة سلبيّة تحيطُ بالشخص على شكل هالات طاقةٍ تحطُ من عزمِه، تصرف عنه الأمور الإيجابيّة أو بمعنى آخر الطاقة الإيجابيّة والفرص الحقيقيّة لتحقيق أمور كثيرة في حياته؟!

يكمن مربط الفرس في قانون الجذب أو لنسمِّه سرّ التوكّل على الله في التفكير وذكر فقط الأمور الإيجابيّة التي يريد المرء تحقيقَها في حياتِه، على سبيل المثال أن تقول: "سأسافر العام المقبل إلى جزر المالديف بصحبةِ أشخاص أعزاء"، أو "الشركة التي أعمل بها رائدة وأحقّقُ بها نجاحاً مثمراً" في سنتك الجامعيّة الأخيرة.
أن تذكر العبارة وتؤمن بها وتتخيّلها وتسّلمها للّه وتسعى كأّنها أمرٌ مفروغٌ منهُ سيتحقق يقيناً، ألا تسأل نفسك كيف سيحدث هذا وأنا لم أتخرج بعد؟! بل أن تثقَ أنّ اللهَ سيسخّر الكونَ لك لتكونَ يوماً ما تريد، وهو -عزَّ وجلّ- سيعطيكَ ذلك، يمدّكَ بالفرصِ والأشخاصِ الّذي سيكون دورهم ذات يومٍ إيصالك إلى هناك، سيقدر لك مواقف ستراها أبعد ما تكون عن الهدف الذي تريد، ولكن تجد نفسك بالنهاية تقف عند هذا الهدف.

تحقيقُ ذلك يحتاجُ طاقةً هائلةً من الثّقةِ وتحمّلِ عثراتِ الطّريق، والإعداد والتدريب واستغلال الفرص الصحيحة وعدم الوقوف عند سفح الجبل ورفض الصعود بأيٍّ من الحافِلاتِ التي توصلُ إلى هناك على أمل أن يأتي البساطُ السحريُّ ليوصلكَ إلى تلك القمّة، وأدعوكم للتعمّقِ أكثر بهذا الموضوع.

ربما تتساءل لماذا أذكر هذا القانون في هذه الصفحات؟ وما الذي أريد إيصالَه؟ أستذكرُ مقولةً للأديب مصطفى صادق الرافعيّ يقول فيها: "إنَّ في كل إنسانٍ تعرفهُ إنساناً لا تعرفُه"، وإن أكثر إنسان لا تعرفه بحقٍّ هو ذاتُك أنت، وإنّكَ أحقُّ إنسانٍ بالتعرّف إلى ذاتك وإطلاق العنان لهذه الذات أن تجرّب الجديد وتقتحمه؛ لتتعرف إلى الجوانب التي تجهلها فيها، حتى تكون قادرة على معرفةِ طريقها بحقّ، وتتبع نور خطاها دون أن تقول إن هذا لا يناسبني، وهذا مستحيل، ولا أستطيع أن أكون هنا.

مؤّخراً لم أعد أؤمِن بالصُّدَفِ أبداً، ولم أعُد أسأل الله عن حكمته في شيء، بل أدركُ أنّ في كلّ قدرٍ حكمة تأخذ بيدي نحوَ قمّةٍ سأصادف فيها كلّ مَن آمن أنّه شيء يستطيع أن يغيّر في هذه الأرض، ووصل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد