يبدو من خلال عنوان المقال أن الموضوع يتعلق بكرة القدم، وإن كان كذلك فهو يحمل في طياته جملة من الدروس النفسية من خلال ما جرى في لقاء البارسا وباريس جيرمان برسم دوري أبطال أوروبا؛ حيث تمكن الفريق الكتالوني من الفوز بستة أهداف مقابل واحد، بعدما خسر بأربعة لصفر في لقاء الذهاب!
وكمهتم بتطوير القدرات البشرية وبمجال كرة القدم، فلا يمكنني أن أترك هذا الحادث يمر هكذا من دون الوقوف على أبرز مميزاته النفسية والذهنية، التي أصبحت الآن تدرَّس وتطبَّق في مختلف المجالات كالتعليم، والصحة، والإدارة وريادة الأعمال، إضافة إلى الرياضة تحت مسمى الكوتشينغ الرياضي Coaching Sportif؛ حيث إن التدريب والتوجيه الذهني والنفسي هو ما يصنع الفرق ويحقق الأداء العالي بعدما يؤمن التدريب التقني التكتيكي.
موضوع التدريب الذهني ليس حديث الساعة؛ بل ظهر قديماً مع المتخصصين النفسيين، وخصوصاً الألمان حيث كانوا يحققون أداء عالياً وأرقاماً قياسية في بطولات التزلج ورياضات أخرى، واليوم هو صناعة قائمة بذاتها تقدم على شكل كبسولات ذهنية – نفسية في الوقت المناسب؛ لتعطي اللمسة السحرية على الأداء.
ولفهم الموضوع أكثر سأرجع بك عزيزي القارئ إلى بعض المحطات السابقة القريبة للأذهان، والبداية مع فوز المنتخب اليوناني بكأس أوروبا سنة 2004، الذي اعتبر أمراً مفاجئاً، وحينما سئل مدربه الألماني Otto Rehhagel، قال: "عملت على إقناعهم بأن الكأس لنا"، وكلنا نتذكر المنتخب الإسباني حينما رفع شعار نستطيع Podemos، وحقق الفوز بكأس أوروبا سنة 2008، بعدما كانت خيبات الأمل وسوء الحظ تجاوره قبل ذلك، ومع أنه يضم أفضل اللاعبين، ولا ننسَ الفيديو التحفيزي الذي استعمله المدرب الفذ pep guardiola في نهائي أبطال أوروبا سنة 2009، وساعد البارسا على الفوز في مدينة روما الإيطالية.. كلها محطات عنوانها الأبرز التحفيز الذهني لبلوغ أقصى الأداء.
قبل ملحمة البارسا، ظهرت مجموعة من الشعارات كلها تؤكد أننا نستطيع الرجوع في النتيجة وتحقيق التأهل Podemos, Podem, We Can، وحينما سئل الشارع الكتالوني أكد 80% أن العودة مؤكدة، وبدأت القناعات والاعتقادات Beliefs تتغير إلى اعتقاد إيجابي بإمكانية التأهل، وعمَّ هذا المكون الجديد عقول اللاعبين، الجمهور والمدرب والطاقم المشرف، وحينما سئل الكوتش Luis Enrique عن كيفية فعل ذلك، أجاب: "هم سجلوا أربعة في الذهاب ونحن سنسجل ستة في الإياب"، وهذا هو مفتاح الفوز لتغيير اعتقاد سلبي "المهمة مستحيلة، لا نستطيع، إنها معجزة" إلى اعتقاد إيجابي راسخ "نستطيع، يمكننا، نحن لها".
هذه العبارات والكلمات البسيطة تعتبر من أقوى الكلمات التحفيزية، وهي تسمى في منهج البرمجة اللغوية العصبية NLP بلغة ملتون Milton نسبة إلى "أبو التنويم بالإيحاء" Milton Ericsson العالم والطبيب النفسي الأميركي.
إنها كلمات عامة تؤثر مباشرة على العقل اللاواعي Subconscious، فهي لا تحتاج إلى التفسير ولا التفاصيل فقط توقد في باطن مستمعيها الحماس والقوة، وتساعد على التخلص من القلق المثبط.
لنتخيل معاً أساتذتنا ومربينا يتكلمون بهذه الطريقة مع الأطفال والتلاميذ "يمكنكم النجاح، رائع، أنتم في تحسن.."، فلديَّ اليقين أن النتائج والتغيير سيكون أكثر من المتوقع بالرغم من كل التحديات.
وبالعودة إلى ملحمة البارسا وتحقيق ما سُمي مستحيلاً، فيمكننا الوقوف بالأساس على تأثير هذا الاعتقاد الراسخ عند كل الفاعلين: اللاعبين، الطاقم، الجمهور والصحافة بإمكانية تحقيق المرور، بالرغم من صعوبة التحدي، إضافة إلى شخصية البطل وعقلية الفوز التي تمتع بها الفريق الكتالوني، وغابت عن الفريق الباريسي، التي دفعته إلى ارتكاب جملة من الأخطاء الفادحة وضياعه الكثير من الفرص، وخصوصاً في الشوط الثاني، ومع أن أداء ومستوى البارسا لم يكن عالياً، فإن إصراره وعزيمته وثقته حتى آخر ثانية جعلت الأمور تسير في الاتجاه الذي يريده.
قد يسمي البعض هذا حظاً، نعم إنه حظ المجتهد، حظ الأبطال Suerte de campeón الذي يعرفه المتخصصون بأنه "عندما يكون الاعتقاد راسخاً وقوياً فكل الطاقات والظروف تجند لخدمته".
وفي طريفة حصلت لي شخصياً في مقابلة البارسا، حيث عندما كانت النتيجة ثلاثة لواحد ويلزم الفريق الكتالوني ثلاثة أهداف أخرى، وفي لحظة إلهام وقراءة للوقائع أو ما يسمى حاسة سادسة، أرسلت رسالة لأخي أحد مشجعي البارسا لأطمئنه، وهو في لحظات خوف واستياء أن فريقه المفضل سيربح بستة لواحد!
من هنا يمكن أن نفهم ونفسر لماذا لا تفوز المنتخبات الإفريقية بكأس العالم مع أن لديها من المؤهلات ما يحقق لها ذلك، ومع أنها فازت بكأس العالم للفتيان والشبان (غانا كمثال)، إنه الاعتقاد بإمكانية الفعل كما يقول هنري فورد "سواء كنت تعتقد تستطيع أو لا فإنك على حق في كلتا الحالتين"، والأمر يحتاج إلى الاهتمام بتطوير القدرات البشرية والدفع بها إلى أعلى أداء؛ حيث يمكن تطوير العديد من المجالات، علماً أننا وحسب إحصائيات لا نتجاوز استغلال أكثر من 10% من قدراتنا.
وختاماً نقول إن التدريب الذهني والنفسي أصبح مطلباً أساسياً في مختلف المجالات للتعامل مع التحديات وتحقيق الأهداف، وحتى إن لم يحقق الهدف كما حدد فهناك مكاسب متعددة، ومع الممارسة والخيال تظهر نتائج تفوق المتوقع.
ولعل ملحمة الكامب نو ستغير الاعتقاد الذي كان سائداً بأنه لا يمكن الرجوع في نتيجة كهذه، ما سيفرز نتائج مماثلة ستحققها فرق أخرى مستقبلاً، سواء في كرة القدم أو مجال آخر.
وهنا ننوه بأن نشوة الفوز الساحق قد تفرز تقاعس وانخفاض الطاقة Contre Performance إذا لم يتم التعامل معها بحكمة وحِرفية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.