زيارة جزر الأميرات.. يوم وسط جمال لا ينتهي!

ذات صباح، ونحن نحتسي القهوة التركية أنا وصديقي التونسي "سامي فاضل" بمنطقة "الفاتح" في إسطنبول، دار بيننا كلام عن "جزر الأميرات"، وسرعان ما قررنا زيارة إحداها، فهي تقع على بُعد بِضعة كيلومترات من المدينة، في قلب بحر مرمرة قبالة السواحل التركية

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/14 الساعة 02:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/14 الساعة 02:03 بتوقيت غرينتش

كثيراً ما سمعنا وقرأنا عن أشخاص تم نفيهم إلى بلدان بعيدة وإلى مناطق مجهولة، منهم مَن ينتمون إلى تنظيمات "إرهابية" أو يحتمل أن يكونوا كذلك، كمن تم سجنهم في "غوانتانامو" جنوب شرق كوبا مع مطلع القرن الواحد والعشرين، ومنهم الملوك كالملك الراحل محمد الخامس -رحمه الله- الذي نُفي إلى "مدغشقر" سنة 1953 مع أسرته، ومنهم الأمراء المتمردون على النظام إبان الدولة البيزنطية مَثلاً فيُحكم عليهم بالنفي إلى واحدة من "جزر الأميرات"، هناك حيث قضى "ليون تروتسكي" أيضاً أربع سنوات بعدما نفاه الاتحاد السوفييتي عام 1929 على يد "ستالين".

كان هذا شيئاً من فُتات التاريخ السياسي، التاريخ الذي يفرض -أحياناً- على الإنسان النفي دون اختياره ودون علمه ودون تخطيط منه.. وسأنتقل بكم إلى بعض تضاريس الجغرافيا السياحية لجزر الأميرات، تلك التضاريس التي تفرض على الشخص -بسحرها وجمالها- اختيار منفى بمحض إرادته وبتخطيط مسبق للرحلة.

ذات صباح، ونحن نحتسي القهوة التركية أنا وصديقي التونسي "سامي فاضل" بمنطقة "الفاتح" في إسطنبول، دار بيننا كلام عن "جزر الأميرات"، وسرعان ما قررنا زيارة إحداها، فهي تقع على بُعد بِضعة كيلومترات من المدينة، في قلب بحر مرمرة قبالة السواحل التركية.

هي مجموعة متألفة من تسع جزر متقاربة فيما بينها، أكبرها تزيد مساحتها على خمسة كيلومترات مربعة بقليل، وأصغرها لا تصل مساحتها إلى الكيلومتر المربع الواحد، وحيث إن أكبرها معروفة بالازدحام الشديد، فقد وقع اختيارنا على أوسطها مساحة، وهي "جزيرة القلعة" أو بالتركية Burgazada.

انتقلت وصديقي فوراً إلى ميناء Kabataş وركبنا البحر لمدة ساعة تقريباً في جو مفعم بالحيوية، كيف لا وقطرات الماء تتناثر على وجوهنا بين الفينة والأخرى جراء سرعة السفن التي تمر بالحذو منا؟! وكيف لا وطيور النورس ترافقنا في رحلتنا، لكأنها ترحب بنا مسبقاً بتغريدها الرائع وتحليقها بالقرب منا، ولا تكاد تبتعد كثيراً إلا إن تفضلنا بإلقاء قطعة خبز لها على الماء وسرعان ما تشكرنا وتعود إلينا بعد التقاطها، وما تركتنا حتى بلغنا وجهتنا.

ها نحن ذا ننزل من السفينة وتطأ أقدامنا يابسة بين قارتَي أوروبا وآسيا، يابسة رطبة محاطة بالماء من كل جانب، أرضاً هادئة بعيدة عن صخب ثاني أكبر المدن في العالم من حيث السكان.. مساحة خضراء لا تزيد على الكيلومتر ونصف الكيلومتر مربع؛ لذلك فالمسافات هنا تقاس بالمتر فقط.

"السلام في الوطن، السلام في العالم" (Yurtta sulh، cihanda sulh)، عبارة كثيراً ما ستجدها مكتوبة وموقَّعة تحت تماثيل "أتاتورك"، مؤسس الجمهورية، تماثيل لا يقتصر انتشارها وسط المدن والمحافظات، بل تجدها أيضاً وسط البحر في كل جزيرة.

أول ما سيشد انتباهك موقف للدراجات الهوائية قرب الميناء؛ حيث يمكنك -إن رغبت- استعارة إحداها للقيام بجولتك الخاصة بمفردك أو مع رفيقك على دراجة ذات مقعدين.

لِوهلة ستظن نفسك -أيها المغربي- واقفاً قرب القلب النابض لمراكش جامع الفنا؛ إذ ستنتبه بعد بِضع خطوات لفضاء آخر خاصٍ -أيها المشرقي- بـ"الحنطور" أو عربات الخيول (الكوتشي) المتسعة لأربعة أشخاص لو أحببت جولة ذات طابع ريفي تقليدي.

نعم، ليس في الجزيرة وسائل مواصلات أخرى غير تلك، الدراجات الهوائية وعربات الخيول المنتشرة في كل مكان جيئة وذهاباً، ولا تكاد ترى سيارة أو شاحنة أو حافلة، ما عدا سيارة إسعاف وشاحنة رجال المطافئ مركونتين في زاوية لا تبرحان مكانهما إلا للطوارئ.

وسائل النقل الصماء والطبيعة الغناء جعلتا من "الجزر الحمراء" محجاً للسياح ومقصداً للأتراك قبل الأجانب؛ إذ يمكنك -هنا فقط- استنشاق ذرات الأكسجين النقية، كما أن زفيرك تلتقطه مئات الأشجار المكونة للحدائق الجميلة، فلا مجال للتلوث هنا. رغم الحريق الذي شب في الغابة قبل عشر سنوات، فإنها سرعان ما استجمعت قواها والتأمت جروحها واسترجعت خضرتها ورونقها، مما يجعلك تحس بالسعادة تتدلى إلى قلبك وبالبهجة تحط رحالها في أعماقك كما تتدلى أغصان أشجار تلك الغابة وكما تحط قطرات الندى على أوراقها.

على جبل وسط الجزيرة يسمى "البيرق" Bayrak Peak يوجد جامع رائع رغم صغره، شُيد سنة 1953 صلينا فيه الظهر والعصر جمعاً وقصراً، وغير بعيد من المسجد تبدو كنيسة يونانية قديمة. على ذلك الجبل يحلو المنظر الجميل؛ إذ تستطيع أن ترى كل ما يدِب على الجزيرة، وكيف تسير عجلة الحياة هناك، وتستطيع أن ترصد الحركة الاقتصادية والاجتماعية في الجزيرة.. كما يمكنك رؤية الجزر المجاورة يمنة ويسرة.

ما يميز "جزيرة القلعة" أن أغلب مَن تلتقيهم من الساكنة، يقطنون في منازل لا تقل ألوانها برودة عن برودة الجو، ويغلب عليها الطراز المعماري الفيكتوري. كما تلتقي أناساً تبدو على وجوههم ابتسامة لا حدود لها يرحبون بك في محلاتهم التجارية ومطاعمهم الفاخرة، ويمكنك احتساء الشاي الأسود في أحد المقاهي الشعبية.

نساء ورجال آخرون لا سقف لمبيعاتهم إلا السماء، يفترش بعضهم مجموعة من المصنوعات الفضية، وبعضهم يبيع الملابس التركية الجاهزة، بينما يكتفي البعض الآخر بعرض ديكورات وتذكارات صغيرة ومجسمات متوسطة الحجم يتجسد في كل واحد منها بعض من التراث العثماني، لو أحببت أن تنقل شيئاً منه إلى بلدك.

في زاوية أخرى من الجزيرة، يمكنك زيارة منزل قديم يعود لأحد أكبر وأبرز الكتاب الأتراك، الكاتب القصصي "سعيد فائق عباسي يانيق"؛ حيث حولت أمه المنزل بعد وفاته سنة 1959 إلى متحف يحمل اسم ابنها، كما تنظم هناك منذ عقود جائزة سنوية لأفضل قصة مكتوبة تحمل نفس الاسم.

بدأت أنوار الجزيرة في الاشتعال إعلاناً لبداية الغروب وأوشكت رحلتنا على الانتهاء، فنزلنا إلى الميناء واقتنينا بعض المنتجات المحلية وبعض التحف الأثرية الصغيرة، وعُدنا ليلاً قبيل العشاء إلى إسطنبول.

في التاريخ، من ساء حظه يُنفى إلى جزيرة من الجزر، وربما يظل هناك حتى يلفظ آخر أنفاسه، لكن في الجغرافيا مَن حسُن حظه فقط هو الذي يحظى بفرصة لزيارة جزيرة من "جزر الأميرات"، ويكفيه يوم واحد على أرضها ليجدد معالم حياته.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد