في الحقيقة، اختياري لهذا التوقيت بالضبط حتى أكتب عن "الأم" لم يأتِ بعد ترتيب مسبق، ولا هو اختيار مع سبق الإصرار والترصد. اختياري جاء بشكل مفاجئ عبثي، فأنا وإلى غاية الآن لم أنجح يوماً في الكتابة عن أمي ولا عن الأم بصفة عامة، فكل محاولاتي السابقة باءت بالفشل؛ حيث إن قلمي لم يتجرأ يوماً للتطرق لموضوع بهذا العمق، أو كيف لقلم أن يصف شخصاً بهذا الجلال والبهاء كله؟ كيف لقلم أن يصف أكثر حالات الطبيعة غرابة؟ نعم فالأمومة حالة فريدة لا تصفها حتى أكثر المعاني دقة.
الأمومة تعني أن تسهر امرأة ليالي طوالاً في الوقت الذي كان بإمكانها أن تنعم بالراحة كغيرها، تعني أن تقلص من مساحة حريتها في الوقت الذي كان بإمكانها أن تحلق في سمائها وترفرف، تعني أن تشارك الحياة مع طفل وتتحمل مسؤوليته، تعني أن تفكر في أكثر طرق التربية نجاعة حتى يكبر طفلها بدون عقد، خصوصاً إذا كان المحيط لا يفعل شيئاً غير أنه يزيد من مسببات هذه العقد.
الأمومة تعني أن ترتدي الأم نفس الثوب لأيام وأيام فقط ليكون طفلها في أحسن حالاته، تعني -وبدون مبالغة- أن تقطع من لحمها بدل القطعة قطعاً لتمنحها لطفلها إذا دعت الضرورة، تعني أن ترى الدنيا بعين أطفالها وتجعل من سعادتهم أبرز أسباب سعادتها بل وسبباً رئيسياً في عيشها، تعني ألا تتمنى الموت مهما انتهك المرض من صحتها؛ لأنها تعلم أن هذا سيكسر أطفالها، تعني أن تتألم في صمت حتى لا تشعر أطفالها بضعفها.
الأمومة زيادة على ما ذكر هي أن الأم تقوم بكل هذه التضحيات عن طيب خاطر، بل وتقدمها على طبق من فضة وبكل فرح، والأكثر غرابة هو أن لا شيء يحثها على كل هذا، فبعيداً عن المرجعيات الدينية والقانونية وغيرها، لا يختلف اثنان على أن كل أمهات العالم تتشابه مهما اختلفت أيديولوجياتهن وثقافتهن.
فإذا ما حاولنا إذاً الإجابة عن أكثر التساؤلات التي تطرح نفسها في هذا السياق، ألا وهي: كيف لامرأة قد وصفت على مر التاريخ بأوصاف مفادها أنها ضعيفة عقلياً وجسمانياً أن تتحمل ما تتحمله من تضحيات وألم ومخاوف وغيرها فقط لتصير أُماً؟ كيف لامرأة مثلها أن تضحي بكل ما منحته إياها الطبيعة من حرية تامة لتمنح الحياة لشخص آخر؟ ما الذي يزرع فيها قابلية جعل شخص آخر محور حياتها؟ وهل فعلاً هذه الأمومة تستحق كل هذا؟ سنجد أن أغلب الأجوبة ليست منطقية أبداً إذا ما نظرنا إليها من زاويتنا الخاصة، أي كأشخاص لم يحظوا بهذا الإحساس.
وللمرة العشرين بعد المائة أو أكثر بقليل، تخونني لغتي وألفاظي ولا أجد ما يقال عن هذا الموضوع العميق من حيث جميع نواحيه وأبعاده، فكلما حاولت أن أصف كلمة الأمومة أو "الأم" بشكل خاص، والمتمثلة في شخص "أمي" تفقد الأوصاف معناها، تنحني الكلمات خجلاً وإجلالاً لها ولروحها الطيبة التي تشبه روح كل أم في هذا العالم.
وفي الختام، حاولت أن أجد وصفاً معبِّراً يضفي رونقاً على كل ما قيل، وحتى أجعله رسالة حب لأمي حين تقرأ المقال، فلم أجد إلا أن أقول لها: "قطعة من الجنة" أنتِ، ولم ولن أجد تعبيراً يصفك بشكل أكثر دقة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.