لا بدَّ من إسطنبول

يمكنكَ أن تفهم علاقتك مع أي مدينة بحواسّك الخمس، والحاسة السادسة لا تكفي أبداً، ولا تستطيع أن تشرح بأي طريقة كانت سببَ حبك لها وتعلقك بها، فكل مدينة هي حالة شعورية وتجربة شخصية خالصة، مثلها مثل أي قطعة موسيقية أو لوحة فني

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/14 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/14 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش

يمكنكَ أن تفهم علاقتك مع أي مدينة بحواسّك الخمس، والحاسة السادسة لا تكفي أبداً، ولا تستطيع أن تشرح بأي طريقة كانت سببَ حبك لها وتعلقك بها، فكل مدينة هي حالة شعورية وتجربة شخصية خالصة، مثلها مثل أي قطعة موسيقية أو لوحة فنية، هنالك دوماً شيءٌ ما خفيٌّ عصي على الشرح في ذلك الشعور، هنالك دوماً شيءٌ ما غريبٌ يجعلك تقع في حب مدينة، وتهرب من أخرى، وهكذا هي إسطنبول.

لعنة أبدية ترسلها عليكَ هذه المدينة ما وقعت عيناك عليها، فلا تكتفي منها أبداً. ومتى هممتَ بالرحيل، شعرتَ أن جزءاً منك ليس فيك، فالمدينة قد أخذت منك الكثير، وأنك قبل إسطنبول لستَ كما بعدها.

ومتى ما بلغها أنك فهمتَ أسرارها، وفككتَ ألغازها، وغُصتَ في أغوارها، بادلتك حُباً بحب، وشوقاً بشوق، تحتضنك إذا تَعِبت، وتشتاق إليك إذا ابتعدت.

جمعت النقائض كلها دفعة واحدة، يختلط ازدحامها بوحدتك، ووحدتها بازدحامك، قد تشعر أنك في آمن بقعةٍ في العالم في لحظةٍ أو زاويةٍ ما، وفي أخرى لا تأمن على نفسك أن تحني رأسك لتنظر في هاتفك خوفاً من غادرٍ قادم.

فيها تُمسي وكأنك للعالَمِ مالكٌ حين تستقلَّ إحدى عبَّارات مضيقها، أو حين تراقب الشمس تُسدِل ستارَها خلف صفحات المياه، ثم تشعر وكأنك حشرة تُسحق في إحدى حافلاتها صباحاً.

وإن كان كلّ زقاق من أزقتها يحمل من التناقض ما يحمل، ومن الخبايا ما تحتاج سنين لتكتشفها، فإنَّ بسفورها الذي أرخى كتفيه على قارَّتين، هو الصفحة الجليَّة فيها، لم تشُبْها شائبة، أو يعكِّر نقاءها معكِّر، يكفي أن تمدَّ ناظريك نحوه لِتُخلِّص نفسَك من أي تعبٍ حمَّلتك إياه حياة المدينة وصخبها المُتعب.

أزقتها كشبابيك صغيرة في قلبك لم تكن تعلم بوجودها أو أنها حية، فأحيتها الدهشة، وشوارعها كما الأبواب الكبرى التي شكَّلت فروقاً في حياتك، أما مرتفعاتها فمثل سلالمَ تقترب من السماء، تحمل سَكينتها إليك، وتملأ نفسك راحةً وطمأنينة.

قيل مرة إننا نحبُّ المدن التي تشبهنا، فهل حقّاً أحببنا إسطنبول لأننا نشبهها؟ لا أدري ما الإجابة فعلاً، لكنني أدري أنه كان لا بدّ من إسطنبول، وأن حياة من دون إسطنبول هي حياة ينقصها الكثير والكثير.

لماذا الجادة 34؟
الجادّة في اللغة هي الطريق المستقيم، أو الطريق الأعظم الذي يجمع الطرق، يستخدمها الأتراك والفُرس في لغتهم بنفس المعنى الذي حوته العربيّة. أما الرقم 34 فهو الرقم البريدي لمدينة إسطنبول. ومن هنا جاءت التسمية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد