يعد السلف المشترك بين الإنسان والقردة العليا من أصول نظرية التطور، الذي بإثباته يشتد عود النظرية وتستقيم كثير من فروعها، والذي في حالة تقويضه تتقوض النظرية من أساسها، وللتدليل على هذا السلف قدم فرانسيس كولينز حجتين هما الدنا الخردة junk dna والاندماج الصبغي chromosomal fusion.
في كتابه لغة الإله الصادر عام 2006 ادعى عالم الوراثة فرانسيس كولينز أن الدنا البشري يقدم دعماً قوياً لنظرية داروين للتطور، وهي الانحدار من سلف مشترك نتيجة الانتقاء الطبيعي، الذي يعمل على التنوعات العشوائية، وبشكل أكثر دقة، فإن الدنا البشري يثبت أن الإنسان والقردة العليا يتشاركان في سلف مشترك.
وتفصيل الحجة الأولى هو أن الإنسان يشترك مع الثدييات الأخرى في الدنا غير المشفر، الذي يفترض أنه ليس له أي وظيفة (خردة)، وهذا يعني وفقاً لكولينز استنتاج أن السلف المشترك بين الإنسان والفئران أمر لا مفر منه تقريباً، هذا ما يخص تفصيل الحجة الأولى، أما تفصيل الحجة الثانية، هي أن الصبغي البشري رقم (2) قد نتج عن اندماج صبغين يشبهان نظيريهما لدى القردة، ويرى كولينز ذلك دليلاً يصعب فهمه دون افتراض وجود سلف مشترك بين الإنسان والقردة، وهكذا نكون قد أنصفنا الرجل بعرضنا تفصيل حجتيه.
هاتان هما أكثر حجج التطوريين شيوعاً وقوة وهما اللتان استعملهما كولينز لإثبات السلف المشترك المزعوم، ولكن هناك شيئاً واحداً يعاب على الرجل وهو أنه استند بصورة كبيرة على علوم عفا عليها الزمن، وعلى افتراضات مشكوك في صحتها، كما سنرى هاهنا.
لم يكن كولينز ساذجاً كالكثير من التطوريين، فهو لم يكتفِ بتلك الحجة الساذجة التي تقول بأن تشابه الجيني الوظيفي بين نوعين يقضي ضرورة بأن لهما سلفاً مشتركاً، رفض هذا واعترف بأن التشابه الجيني الوظيفي بمفرده لا يبرهن بطبيعة الحال على وجود سلف مشترك، وهذا صحيح، وبدل ذلك طرح حجة مختلفة، وهي وجود نوع من الدنا يسمى العناصر المكررة القديمة (ancient repetitive elements) بلا وظيفة (خردة)، وذلك في نظره يدل على صحة التطور الداروني والسلف المشترك بين الإنسان والقردة العليا.
ومن وجهة نظره، فإن استنتاج وجود سلف مشترك للبشر والقردة العليا والفئران لا مفر منه عملياً، إلا بافتراض أن الإله قد وضع تلك العناصر المكررة القديمة AREs عديمة الفائدة في تلك المواقع الدقيقة من الدنا إرباكاً وتضليلاً لنا، فالمؤمنون أمامهم خيار من اثنين، إما الاعتراف بالسلف المشترك، وإما القول بأن الله مخادع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وطبعاً حفلة من هذا النوع لا يمكن أبدأ ألا تجد الملحد الداروني ريتشارد دوكنز حاضراً فيها، فقد ألقى بهديته، فقال قد يجب على الذين يؤمنون بالخلق أن يقضوا أوقاتاً جادة متأملين هذا السؤال: لماذا يكلف الخالق نفسه العناء في وضع الجينوم به تكرارات متتالية من الخردة؟ هذه الحجة تقتضي إما التسليم بسلف مشترك أو نفي الحكمة عن الله سبحانه وتعالى.
المهم هو ما أتى بعد هذا الكلام، في 2002 قام عالم الأحياء ريتشارد شتينبرغ بدراسة إحصائية للمنشورات العلمية المختصة بهذا المجال، ووجد أدلة كثيرة لوجود وظائف لتلك العناصر المكررة القديمة AREs، وكتب في سجلات أكاديمية نيويورك للعلوم أنه وجد أن وظائف العناصر المكررة القديمة AREs تشمل الآتي:
1- تكرارات التوابع satellite repeats تشكل البنى الهيكلية العليا للنواة.
2- تكرارات التوابع تشكل الجسم المركزي centromeres .
3- تكرارات التوابع وغيرها من العناصر المكررة REs تشارك في عملية تكثف.
4- التكرارات الانتهائية telomeres والعناصر النووية الطويلة المتخللة.
إضافة إلى اكتشاف تسع وظائف أخرى، واكتشفت ورقة بحثية أخرى بأن الموصوف بأنه الدنا الخردة له وظائف في إنماء الوظائف العليا للدماغ البشري، كما تم اكتشاف وظائف متعددة لأنواع مختلفة من الدنا غير المشفر وتشمل: إصلاح الدنا، والمساعدة في عملية نسخ الدنا، وتنظيم عملية نسخ الدنا، والمساعدة في عملية طي الصبغيات ودعمها، والتحكم في عمليات تحرير الرنا RNA وتضفيره، والمساعدة في مكافحة الأمراض، وتنظيم عمليات النمو الجنيني، مما يقطع بأن الذي سمي بالخردة ليس كذلك.
في عام 2007 نشرت صحيفة "الواشنطن بوست" تقريراً يفيد بأن المشروع العلمي الضخم المعروف بمشروع إنكود ENCODE، قد توصل إلى أن الغالبية الساحقة من الشفرة الجينية المكتوبة عند البشر التي تقدر بثلاثة مليارات أساس تقوم بمجموعة من الوظائف التي لم تكن معروفة من قبل.
لمعظم الدنا غير المشفر دور تنظيمي، إذ يبدو أن للأحماض النووية الريبوزية الصغيرة small RNAs على اختلاف أنواعها أهمية في التحكم بعملية التعبير الجيني على مستوى الدنا، ونسخ الرنا بطرق بدأت في التكشف حديثاً، هكذا سقطت الحجة الأولى لكولينز ودوكنز على أم رأسها؛ لننتقل الآن للحجة الثانية.
عموماً الحجة الثانية لا تسمى حجة إلا مجازاً وليس على وجه الحقيقة، أو بعبارة أدق فهي حجة ترجيحية وليست برهانية، فإن سقطت الحجة الأولى تسقط الحجة الثانية من تلقاء نفسها، وهذا الكلام يصادق عليه الخصم نفسه، يقول فرانسيز كولينز: إن التشابه الجيني الوظيفي بمفرده لا يبرهن بطبيعة الحال على وجود السلف المشترك؛ لأن المصمم قد يستخدم قواعد التصميم الناجحة مراراً وتكراراً.
هذا الكلام نحن نوافق عليه، ولا يسعنا إلا أن نقول أهلاً بالوفاق، وهناك من العلماء من يرى أن تشابه الجيني الوظيفي ليس له أهمية كبيرة، يقول عنه عالم الأنثروبولوجيا جوناثان ماركس، من جامعة كارولينا الشمالية: ليس الاندماج الصبغي هو الذي منحنا اللغة، أو جعلنا نمشي على رجلين بدلاً من أربع، ولا هو الذي منحنا الدماغ الكبير، أو صناعة الفن، أو القدرة على مضغ العلكة، إنه مجرد تغير من تغيرات المحايدة فاقدة المعنى، ولا يمكن القول بأنها جيدة أو سيئة في حد ذاتها.
تبقى مسألة واحدة في تزييف خديعة السلف المشترك، وهي ما يقال عنهم أسلاف البشر، الإنسان المنتصب، والإنسان الماهر، وإنسان نياندرتال، هذا ما سنلقي عليه الضوء في المقال القادم.. انتظرونا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.