في عدة تدوينات سابقة تناولتُ موضوعً الأيديولوجيا الإسلامية السياسية أو الإسلاموية؛ لماذا نشأت، وما الظروف التي أسهمت في تشكُّلها، وما تصنيفاتها المختلفة: السلطوي والديمقراطي والشمولي والشبه ثيوقراطي. ولكي تكتمل الفكرة، فإنه من الضروري أن نناقش الأيديولوجيا المناظرة والمنافسة: العلمانية.
وفي هذه التدوينة وما يليها، سأحاول أن أقدم مقاربات جديدة للفهم، لا تهدف إلى الانتصار للعلمانية أو الانتقاص منها، بل هي محاولة للتغلب على الصور النمطية والأفكار المكرورة بشأنها، التي لم تسفر إلا عن المزيد من سوء التفاهم والجدل غير البنَّاء.
وسأبدأ في هذه التدوينة بمناقشة فرضية شائعة في هذا المقام، وهي أن العلمانية هي منتج حضاري وثقافي غربي، نابع من إشكالية الدولة والكنيسة، أو الدين والسياسة في المسيحية، وبالتالي فهي إشكالية لا علاقة لها بالسياق الإسلامي، وعلاج لداء لا تعاني منه الأمة المسلمة.
وتنبني هذه الفرضية على عدة أسس: أن المسيحية كديانة تنص صراحة على الفصل بين الدين والسياسة، وأن نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وبالتالي فإن المسيحية لا تتضمن شريعة متكاملة لتنظم شؤون الحياة الاجتماعية، كما أن المسيحية ديانة مؤسسية بها كنيسة تجسد السلطة الدينية، وبها طبقة دينية تعرف برجال الدين، وكلا الأمرين لا يوجدان في الحالة الإسلامية.
ففي الإسلام، لا يمكن الفصل بين الدين والسياسة، نظراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبياً (مجسِّداً للسلطة الدينية)، ومؤسساً ورئيساً للسلطة السياسية في آن واحد، وبالتالي استنبط الفقهاء أن الخلافة هي رئاسة للدين والدنيا معاً، كما أن
الشريعة الإسلامية شاملة، بها أحكام تختص بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وفي المقابل، لا يوجد في الإسلام "سلطة دينية مؤسسية"، أو "طبقة رجال دين" لكي يتنازع الديني والسياسي معاً.
هذا الطرح على بداهته، إلا أنه تبسيطي، بحيث لا يبرز الواقع بتعقده، لسببين أساسيين:
أولهما: أنه على الرغم من أن المسيحية نشأت ديانة غير مسيسة، وأن أول التقاء بين الكنيسة والدولة كان بعد أكثر من ثلاثة قرون بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية، إلا أن الوظيفة السياسية للكنيسة تطورت مع الوقت وأصبحت تؤدي أدواراً أساسية في بناء هوية الدولة، وإضفاء الشرعية السياسية على نظامها وحكامها، وتسويغ وتوجيه السياسات الداخلية والخارجية لها، وهي الوظائف السياسية التقليدية التي كان الإسلام يؤديها للدولة، بل يمكن القول إنه بسبب الطبيعة المؤسسية للكنيسة المسيحية، فإن قوتها في مواجهة السلطة السياسية كانت أكبر بشكل ملحوظ من المؤسسة العلمائية في الخبرة الإسلامية.
بالمقابل، على الرغم من كون الإسلام ديانة سياسية، وأن السلطة السياسية والدينية قد امتزجتا في دولة المدينة منذ لحظة الميلاد الأولى، وأن الشريعة الإسلامية بها تشريعات سياسية واجتماعية، إلا أن اندماج السلطتين لم يدم طويلاً، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن افتراق القرآن والسلطان، وعن انتقاض عرى الإسلام عروة عروة، وأن أولى العرى التي تنتقض هي الحكم.
فبعد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي اجتمعت في ذاته الكريمة السلطتان الدينية والسياسية للدولة، وعلى الرغم من نص الفقهاء أن الإمامة هي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في كلتا السلطتين معاً، تراجعت المشروعية الدينية للسلطة السياسية تدريجياً، فمن الخلافة الراشدة، إلى خلافة السلالات الوراثية (الأموية والعباسية) منذ العام 41هـ، ثم مع تغلب السلاطين على الخلفاء في منتصف القرن الرابع الهجري تقلصت الطبيعة الدينية للسلطة السياسية، وتزامن مع ذلك نمو المؤسسات العلمائية تدريجياً، بعيداً عن الدولة وفي حضن الأمة، وخلال القرن الثاني والثالث الهجري، واستواء المؤسسات الدينية العلمائية نضجاً، انتقلت السلطة الدينية (الأدبية والعرفية) واقعياً من الدولة إلى هذه المؤسسات، وأدى هذا التمايز إلى توتر مستمر بينهما، تجلى في مواقف عديدة.
وبالمحصلة، فإنه في الخبرة المسيحية كما في الخبرة الإسلامية -مع اختلاف السياقات والمظاهر- لدينا مؤسستان (الدولة والمؤسسة الدينية)، أو سلطتان (السياسية والدينية)، تتنازعان وتتعاونان وتتنافسان، وتحاول كل منهما أن تُخضع الأخرى لهيمنتها، وبالتالي تصبح إشكالية علاقة الديني والسياسي كما تتجسد في العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية إشكالية حقيقية، حتى في الخبرة الإسلامية، وبعكس ما هو ذائع، فإن اشتداد التنافس والتوتر بين السلطتين في الخبرة المسيحية مقارنة بالإسلامية، ليس بسبب الاندماج الناجح بين الاثنين في الحالة الإسلامية، بل بسبب القوة النسبية والاستقلالية التي تمتعت بها الكنيسة وطبقة رجال الدين في الخبرة المسيحية، مما جعل السلطة الدينية قادرة على منافسة، بل وإخضاع السلطة السياسية لهيمنتها في أحيان كثيرة، وذلك في مقابل السيطرة الناجحة نسبياً للدولة على المؤسسات العلمائية في الخبرة الإسلامية، التي لم تعرف رأسا بقوة منصب البابا، ولا مؤسسية واستقلالية كالتي تمتعت بها الكنيسة المسيحية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.