لم أعُد مستمعاً

في الملحمة الأدبية "ألف ليلة وليلة"، تظهر حاسة السمع أو فعل الاستماع كمرادف للقوة والاستبداد، فشهريار المستمع لحكايات شهرزاد يمتلك القوة والأمر، وهو المتحكم في مصير الحاكي الفارض ذاته بسلطة القوة التي يمتلكها، لكن الأمر في الحقيقة لا يبدو كذلك، فشهرزاد تتحكم في السامع بقوة الحكي الذي تمتلكه وببراعة تقنية الحكي المتسلسل في الزمان كما يقول رولان بارث

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/01 الساعة 04:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/01 الساعة 04:43 بتوقيت غرينتش

تعود بي كلمة "المستمع" إلى مراحل الطفولة المبكِرة، عندما التحقت بالكُتّاب أو "بالمْسِيِد" كما يسميه أهل المغرب، وهو درس تعليمي للأطفال لحفظ القرآن يلقيه أحد طلبة العلم في مسجد الحي، ولمّا كنت طفلاً صغيراً لم يبلغ بعد مرحلة القدرة على تعلم القراءة والكتابة، فقد التحقت بالفصل كمستمع، ويسمونها أيضاً بمرحلة الاستئناس.

وتقضي ثقافة الاستماع وشروطها بأن تسمع وترى ما يُقرأ ويُتلى في الفصل من دون أن تكون لك القدرة ولا الإمكانية على الكتابة والقراءة، فأنت مسموح لك أن تستعمل فقط حاستي السمع والنظر، وغالباً ما ينظر إليك زملاؤك الآخرون بنوع من الاستعلاء والتكبّر، فأنت لا تنتمي لجيلهم ولا تتّصف بصفاتهم، وليست لك مثل قدراتهم، فهم أقويّاء متكلمون نجباء ومتعلمون، يستعملون كافة حواسهم التي تجعلهم متميّزين عنك، أما المعلم، فهو لا يعتبرك حاضراً بقواك المكتملة ولا يعُدّك ملزماً بما يلزم به باقي الطلاب، ولا يستحضرك إلا باعتبارك رقماً جامداً، فأنت مجرد مستمع.

تروي لنا نظرية التطوّر أن الإنسان كان يمشي على أربع قوائم، وكانت هذه الوضعية تسمح له بأن يعتمد بشكل أساسي على حاستي السمع والشّم، قبل أن يتطوّر ويمشي على قدمين، ما جعله يطوّر حاستي النظر والكلام ثم استثماره لهذه الحواس في الكتابة فيما بعد. في علم الجمال، تعد ذائقة السماع والاستماع المرحلة المهمة والأساسية في تذوُّق العمل الفني، فالحكم على عمل فني بأنه جميل يشترط بالضرورة حضور وتطوير ملكات الحكم كما يقول إيمانويل كانط، ومن بينها ملكة السماع والنظر. وترتبط ملكة السماع لدى الإنسان في النظرية المعرفية بملكة جمع وتخزين المعلومات، قبل الوصول إلى محاولة تفسيرها وتحليلها، فهي مرحلة مهمة في التعليل العلمي؛ لأنها تتّبع ما قيل وكتب في النظرية من آراء وأقوال ونظريات قبل البدء في دحضها أو دعمها أو تطويرها.

في الملحمة الأدبية "ألف ليلة وليلة"، تظهر حاسة السمع أو فعل الاستماع كمرادف للقوة والاستبداد، فشهريار المستمع لحكايات شهرزاد يمتلك القوة والأمر، وهو المتحكم في مصير الحاكي الفارض ذاته بسلطة القوة التي يمتلكها، لكن الأمر في الحقيقة لا يبدو كذلك، فشهرزاد تتحكم في السامع بقوة الحكي الذي تمتلكه وببراعة تقنية الحكي المتسلسل في الزمان كما يقول رولان بارث، فأدوار القوة هنا تتغير بتغير موقع السامع والحاكي، إنها الأدوار نفسها التي تتغير بين الحكومات ومواطنيها.

يمكن الوقوف عند حالة أخرى من حالات قوة فعل الاستماع في حكاية السندباد البري كما يرويها لنا عبد الفتاح كيليطو في كتاب الأدب والغرابة. فالسندباد البري أصبح عنصراً مطلوباً عند السندباد البحري، لا لشيء إلا ليكون مستمعاً ومصغياً لحكاياته ومغامراته التي لن يكون لها معنى إلا بحكيها.

لقد راكم السندباد البحري تجربة غنية في السفر والتجوال ومعرفة العالم، ولم يتصوّر يوما أنه سيتقاعد عن التجوال والاكتشاف ويبقى حبيس المكان المحدد. إلى أن التقى بالسندباد البري؛ حيث استضافه وأغدق عليه من المال لا لشيء إلا لكي يقبل أن ينصت إليه ولحكاياته.

إن ملكة الاستماع عند السندباد البري هنا هي التي مكّنته من تبوّؤ مكانة القوة، فهو قوي بسماعه ومطلوب لقوته هذه.

هل يستطيع المهمش التحدث؟ كتبت الناقدة والفيلسوفة الهندية كياتري سبيفاك، في نوع من مساءلة الآخر الغربي (الأوروبي بالتحديد)، والآخر الذكوري، في علاقتهما بالحرية التي تُمنح عادة للمهمَّش الشرقي في الحالة الأولى والأنثى المضطهدة في الحالة الثانية. يحاول الآخر الغربي -تقول سبيفاك- قراءة واستيعاب الآخر الشرقي انطلاقاً من موضعه كإنسان غربي أبيض متحضر يسكن قارة متنورة، وهذه الموضَعة المسبقة تجعل هذا النموذج التفسيري يسقط فيما سمّته بالمركزية الذاتية، فالعائق هنا يكمن في محاولة الغربي تفسير الآخر الشرقي انطلاقاً من موضعه ومكانه الذي لم يبرحه قطّ، عوض إعطاء هذا الآخر الشرقي فقط فرصة الكلام والتحدث.

إن الشرقي هنا يظل مستمعاً ما دام الآخر يجعله كذلك، وما دام هو نفسه يصمم على الحديث مع متكلم أطرش.

أمام هذه المعضلة، تطرح سبيفاك وقبلها إدوارد سعيد وآخرون من أنصار نظرية ما بعد الاستعمار طريقاً جديداً في محاولة التكلم، وهو تغيير المتحاور ومحاولة الانفتاح على الآخر الآسيوي والإفريقي والعربي، إنه حوار جنوب جنوب.

يمكن لنا قراءة معضلة الاستماع والتكلم في سياق ثورات الربيع العربي التي فتحت اَفاقا جديدة في فهم عالم اليوم. ككل انتفاضة وثورة تقع في بلد هامشي من بلدان الشرق (وصف الشرق هنا اختزالاً لكل ما هو غير غربي كما يحدده العقل الاستعماري)، تتحرك الآلة الاستعمارية؛ لكي تستوعب ما يقع في انتظار احتوائه، وفي بلدان الربيع العربي بالضبط حضرت هذه الآلة بطرق ما بعد استعمارية.
فلقد تحركت المخابرات السرية وأنشأت غرف العمليات المضادة واستنجدت الأنظمة المضادة بالقوة الاستعمارية، فأسقطت ثورات الشعوب العربية بطرق شتى، من أبشعها الحرب المسلحة التي تجري رحاها اليوم في أكثر من بلد عربي.

إن خرافة الحفاظ على مصالح الدول العظمى ما هي إلا وجه من أوجه منع الهامشي من التحدث، فلا مجال هنا للتحدث وطلب تحقيق المصلحة الذاتية أو محاولة النهوض والتكلم وطلب الاستقلال الذاتي، فالخطوط الحمراء الممنوع تخطّيها وضعها المستعمر في قلب دار الهامشي، في أجوائه وبحره وسمائه، فهو غير قادر على التكلم وطلب الحرية والكرامة والعدالة؛ لأنه مجرد مستمع، تنعكس هذه الحالة الاستعمارية في الأكاديمية الغربية بشكل ملحوظ، فالاهتمام باللغة الأم في الإنتاج المعرفي والنشر والترجمة أصبح مقدساً من مقدسات الانتماء القومي، فلا إنتاج إلا بلغتي ولا تعليم إلا بلغتي ولا فكر إلا بلغتي، فالمركزية الذاتية تجعلني هنا أقف في المركز كما أتصوره أنا مركزاً، وأرى الهامشي كما أحدده أنا هامشاً، وأنظر إلى العالم ومستقبله كما أستشرفه أنا باعتباري مركزاً له.

"تكلم حتى أراك" قال سقراط، وهي جملة تحمل معنى دلالياً عميقاً، فالمستمع يظل هامشياً ما لم يتكلم ووجوده مرتبط بتكلّمه، إلا أن اختار أن يعيش هامشياً، وهي الحالة التي نجدها متجذرة في عقول بعض النخب الذين لا يرون مستقبلهم إلا بجوار وعطف المستعمر، إنها نوع من العبودية المختار بتعبير دي لابوسييه، لا يستطيع المثقف المستلب الانفكاك من هذه النوستالجيا الأمومية، فهو ينفي إمكانية تغيّر التاريخ وانقلاب الأدوار وإنتاج معرفة جديدة، هذه الحالة الاستعمارية نراها في اختيار اللغة الأجنبية لغة للكتابة لدى هؤلاء النخب، فحتى بحثهم عن الشهرة والتميّز يمّر عبر قناة لغة الآخر،

إنها اللغة التي تجعل وجودهم ذات معنى وتسهم في وصول صوتهم للمهمشين أمثالهم، إنهم لا يستطيعون التفكير والكلام بعيداً عن الآخر المركزي الذي يعتبرونه قوياً بلغته وفكره ومكانته، لقد جسّد هؤلاء، هذا التفكير النمطي في نظرتهم لثورات الربيع العربي بشكل فج عندما نفوا إمكانية توصيفها بالثورات أول الأمر قبل أن يتفاجأوا بسقوط الأنظمة التي اغتنوا بجنبها وحملوا معها شعارات القومية والبعثية والاشتراكية.

هل استوعبت الدولة العربية مطالب الشارع العربي؟ هل استوعبت كلام الثوار وقت تكلموا وطالبوا بالحرية والعدالة والديمقراطية؟ بالكاد قال بن علي "فهمتكم" فانقلبت عليه الطاولة، كلا لم تفهمنا يا بن علي، لقد كان كلامنا كلاماً مرموزاً بالنسبة إليكم، أنتم الذين أسكتمونا لعقود وجعلتمونا نعيش كهامشيين داخل الهامش نفسه، تصوّر الصورة التي يكون فيها العصفور داخل قفص صغير وآخر كبير ثم آخر أكبر وهكذا. كلا لم تستوعب معظم الأنظمة العربية كلام المجتمع حتى لا نقول الشارع، فبالنسبة إليها، يعتبر الشباب الثائر مجرد طائشين يعبرون عن نوازع سيكولوجية فقط،

وسيمتثلون للأمر الواقع إما خائبين من عدم تحقق أحلامهم أو بقوة العصا والسجن والتعذيب، لكن في الحقيقة، ما حدث هو أن الدولة العربية التقليدية هذه، هي التي امتثلت للأمر الواقع، إنه الواقع الذي لم تعد فيه الدولة بمفهومها الأبوي الذي يرعى رعاياه ويفرض عليهم قوته وفلسفته، وأصبحت فيه علاقة الفرد بالدولة ذات طابع حواري متساوي، بل أكثر من ذلك، أصبحت الدولة بمفهومها الحديث جهازاً يستمع للفرد بعدما كانت دائماً سلطة أحادية النطق.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد