دائماً ما نلبس ثوب العادات المُرقع ونبقيه زياً رسمياً لعقولنا على امتداد السنوات الطويلة، فينا مَن يُبقي هذا الثوب زيَّه الأوحد ويأخذه معه إلى قبره، وفينا رغم قلة العدد ينزع هذا الرداء عنه ويتحمل نتائج فعلته حتى بعد مماته بامتداد آثار فعلته لأفراد أسرته، وتبقى سلالته حاملةً للعار الناتج عن الخروج عن التقاليد، وإن صح التعبير عن بعضها المشكوك في أصولها.
كيف تأتي العادات والتقاليد وكيف تصبح مقدسة؟
في منطقة قريبةٍ من مسقط رأسي كان هناك أماكن كثيرة يقوم الناس بزيارتها والتبارك بالخير الصادر عمن مات فيها، كانت تلك المزارات وفي أغلبها تعود إلى الأنبياء الذين وُجدوا في تلك الأماكن أو مروا منها أو تركوا شيئاً من ذكراهم هناك، وبعض تلك المزارات كانت لأشخاص قضوا حياتهم في عمل الخير، وكان لهم الصيت الذائع والشهرة الكبيرة والمكانة الرفيعة بين الناس.
أتذكر منذ زمن بعيد حين علمت أن أحد المزارات يتبع لشيخ جليل، ولكن هذا الشيخ لم يعرف أحد شيئاً عنه سوى أنه دفن هناك، وتناقل الناس محاسنه التي بدأت تكبر جيلاً بعد جيل حتى أصبح قبره مكاناً مقدساً، وأصبح الكثير من الأشخاص يتوجهون له بالدعاء والتقبيل، في تلك الآونة انتشرت بين الشباب العاطل عن العمل وعددهم كبير ظاهرة التنقيب عن الآثار اليهودية والرومانية وصولاً للعثمانية، وكانت هذه الظاهرة تجتاح مجالس الشباب، وتكون محور حديثهم الأساسي، وعلى هذا الأساس وصلت معلومات لبعض من هؤلاء الشباب الباحثين عن الثراء السريع تفيد بأن صناديق تعود للعثمانيين قد خُبئت في ضريح الشيخ الذي أقام له الناس المقام وأصبحوا يتباركون به، وبالفعل قرر الشباب كسر كل المعتقدات والمفاضلة ما بين المال وما بين القدسية، وفي مجتمع تسود فيه البطالة ويغلب عليه الفقر تنتصر لقمة العيش على الروحانيات.
وبالفعل توجه الشباب إلى الموقع بعد أن وضعوا الخطط ووزعوا المهام وبدأوا بالعمل، في قرارة أنفسهم يعلمون بأنهم يخالفون كل المعتقدات وبأن نبش القبور حرام، ولكن الدافع كان أقوى، وبالفعل وبعد جهد ساعات من الحفر وعلى أضواء المصابيح اليدوية القديمة، ظهر القبر خالياً ولا يوجد به لا صناديق ولا ذهب ولا حتى أحلام مؤجلة، كانت الصدمة قوية فالهيكل العظمي الموجود في الداخل لم يكن لإنسان كان عبارة عن جمجمة تعود لحيوان!
ما كان يشكل للكثيرين رمزاً للقدسية تبخر في لحظة، كان الشباب حائرين بما رأوا وقرروا أن يعيدوا الوضع إلى ما كان عليه، وأن يبقوا الموضوع سراً حتى آتي أنا هنا، وأكشف ما خُبئ لسنوات طويلة.
كنت ممن تبنوا نظرية أننا لا يجب أن نتلاعب في توجه الناس ومقدساتها، ولتبقى على حالها، لسببين أولهما الخوف من العقاب، وثانياً الخوف من صحة المسألة نفسها.
كيف أصبح المدنس مقدساً؟
أي عمل، يبدأ بفكرة أو موقف بين شخصين وأكثر، ويبدأ كل شخص يعمل كوسيلة إعلام للآخرين من خلال نظرته للفكرة أو الموقف، ويطرحها مع القليل من التلوين حتى تستساغ الحكاية، ورويداً رويداً تكبر شبكة الأشخاص، وكل منهم يوصلها بطريقته، ومع مرور الزمن تحور الأفكار والمواقف لما يتناسب مع الوضع الجديد، ويصبح الدفاع عن هذه الأفكار واجباً صريحاً ومقدساً للحفاظ على قوتها، وهكذا حتى تصبح عبارة عن قلعة يصعب اختراقها أو التفكير في الخروج منها.
على سبيل المثال بعض الثورات تبدأ بوضع الأفكار وتكون في حينها مجرد اقتراحات لا قيمة لها على الأرض، ومن ثم تكبر، وكلما ازدادت أخطاء النظام الحاكم قويت تلك الأفكار وبدأت تستمد شرعيتها من موافقة الكثيرين عليها، إلى أن تصبح واقعاً على الأرض وتنتصر ويصبح أصحابها في السلطة، فتصبح تلك الأفكار مجموعة قوانين يعاقب مَن يخرج عنها بالسجن أو حتى الموت.
تلك الأفكار التي كانت لا قيمة لها أصبحت مقدسة ويجب على الآخرين اتباعها.
ما أُنزل من الله لا جدال في قدسيته، ولكن ما وضعه الناس فهو محل للجدال.
أنا هنا لا أدعو للتكذيب بما كان عليه آباؤنا ولا بأن يصبح التشكيك ظاهرة لا تحمد عُقباها، فما أنزله الله واضح، ولكن علينا إعادة النظر على الأقل في عاداتنا الواقعية وفي تقاليدنا التي لم تعد تلائم العصر الحديث، وهو ما ينعكس سلباً على أولادنا في ظل تداخل الحضارات ودخول الكثير من الوسائل الغربية الحديثة إلى كل منزل، وهو ما رحبنا به جميعاً، وجب أن نتعامل مع المادي بعيداً عن الروحاني وأن نضع الأخلاق ما قبل الدين، فبعد عصور طويلة من الرسائل السماوية جاءت خواتيمها بقول الرسول الكريم: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فاعقلوا يا أولي الألباب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.