في صباح شتوي بارد من صباحات شهر يناير/كانون الثاني، لمحته واقفاً متكئاً على الحائط، كأنه يستند عليه لكي لا ينهار ويسقط أرضاً، فقد كان واضحاً على جسده التعب الشديد، ملابسه رثة وغير مرتبة، ينتعل صندلاً مصنوعاً من مادة البلاستيك، تظهر منه أصابعه التي أصبح لونها أحمر بفعل البرد.
طفل لم يتجاوز عمره 15 سنة من عمره، ملامحه توحي بأنه من سكان المغرب العميق، كان يبدو عليه الارتباك والحيرة وقلة الحيلة، فمرة يمسك بأطراف أصابعه ملابسه، ومرة يلامس حقيبته البالية المتعبة من مشاق السنين، كان يمرر يده على وجهه ليخفي عيونه التي اغرورقت بالدموع، في محاولة لمنع نزول دموعه؛ لكي لا يخجل رجولته الطفولية، لكن في نفس الوقت كانت عيونه تطلب العون والمساعدة، تستنجد بكل مار من أمامها بأن يقف، بأن يسأل عن حال صاحبها.
لا أعرف كيف، لكن كلما كنت اقترب منه إلا ويزداد ألم قلبي، وصوت قلبه هو يرتفع، صوت ينادي بأن أساعده، لكن كيف السبيل إلى ذلك، وهو حسب ما استنتجت من مكان وقوفه أنه قدم طلباً من أجل الالتحاق بوظيفة، لكنه لسبب ما لم يحالفه الحظ. وهو لم يقبل هذا الحظ، كان يطالب بأن يتغير هذا الحظ، فهذه الوظيفة هي قارب النجاة بالنسبة إليه وإلى عائلته، فهو هرب من المغرب العميق تاركاً وراءه أحبابه وأحزانه وذكرياته وطفولته، وجاء حاملاً معه أمله بأن يجد بعض الطمأنينة في العاصمة.
اقتربت منه أكثر وهو ما زال ينظر لي بعينيه الحزينتين، وبينما أنا أحاول أن أستجمع شجاعتي وأرتب كلماتي، فاجأني صوت موظف قادم نحوه، يشرح له بأن وقوفه أمام البناية لا فائدة منه، وأخبره بأن يعيد المحاولة مرة أخرى السنة القادمة، لكن كيف سيتحمل هو سنة كاملة؟! فسنة البؤساء تمر طويلة وصعبة.
تركته يتحدث مع الموظف ومررت بجانبه بسرعة، كأني أهرب من نظراته، ولما ابتعدت قليلاً عنه، وقفت وأخذت شهيقاً طويلاً ثم زفيراً، وأكملت طريقي، كنت أحس أنه ما زال واقفاً ينظر لي، لكن أنا لم أستدر له.
أكثر من أسبوع مر على هذا اللقاء، لكن نظرات ذلك الصغير وشكله بقيت محفورة في ذاكرتي، لم أستطِع أن أنسى أنه طلب مساعدتي وأنا تجاهلته وخذلته، كان باستطاعتي أن أجيب نداءه، كنت أستطيع أن أهدئ من روعه وأطمئنه، كنت أستطيع أن أكذب عليه وأجمل بشاعة الحقيقة، كنت أستطيع أن أقول له بأن كل شيء سيكون بخير، وأنه سيجد وظيفة أخرى، نعم سيجد وظيفة وهو في عمر الطفولة، ففي بلادي الأطفال يتمنون العمل عوض اللعب والهدايا، لكن هل يعرف وطني كم فيه من طفل بائس مثل المجهول الذي صادفته؟ وكم فيه من متألم صامت مثلي؟ متألم صامت يستطيع فقط أن يتألم على بؤسه وبؤس الآخرين دون أن يصدر أي صوت.
يا وطني.. هل تسمعني؟ هل تعرف يا وطني أنه من شدة الألم، قلوبنا قريباً ستصبح حجارة، إن لم تكن صارت منذ زمن؟
يا وطني.. أتعرف كم قتلت فينا من الأشياء الجميلة، وكم كسرت فينا من إحساس رائع؟
يا وطني.. أتعرف كم نموت في اليوم من مرة لنعيش فيك؟ نموت لأننا ولدنا ونحن نحبك، نموت لأنك أنت قدرنا الجميل القبيح، نموت لتحيا أنت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.