أحببتُه، نعم أحببته، كان الرجل الذي بإمكاني أخذه معي أينما حللت، في المدرسة لم يفارق دُرجي، كنتُ أطمئن عليه بين كل حصة وأخرى، أقلب الصفحات كيفما اتفق وأعيد قراءة بيوت من قصائده التي لم يفسدها السجع، كنتُ أفضل رفقته على الجلوس مع صديقات سيتحدثن حتماً عن كل شيء إلاه.
عند انتصاف النهار أعيده إلى حقيبتي، أضعها على ظهري منطلقةُ إلى الحافلة حيث يمكنني إخراجه والإستمتاع به من جديد دون أدنى شعور بالملل.
في المنزل إقامته الدائمة أسفل وسادتي، وعندما يحين المساء ألصق فمي بسماعة الهاتف وأهمس لصديقتي بالقصائد التي يروقها سماعها مني، لن أقول بأنها فعلت ذلك لأنها أحبتني، بل لأنها أحبت فكرة أن تُحب شعره معي، وفي المرات التي يشغل بها إخوتي الهاتف، أدلف إلى غرفة نوم والداي وأقف على سريرهما لأردد ما حفظته عن ظهر غيب، كأنه يراني وسيصفق لي في نهاية القصيدة، يأخذني الشعور ويعلو صوتي، لابد من أنه يحس بالأثير وهو في الطرف الآخر من العالم، الطرف الذي لم أعرف له حتى تلك اللحظة اسماً.
لقد سمحت لنا مكتبة المدرسة باستعارة أي كتاب لمدة أسبوع، في كل أحد كنتُ أذهب وأجدد استعارتي بالكتاب ذاته، ولا أبالغ إن قلتُ بأن سجل الإستعارة الخاص بي لم يمتلئ بأسماء كتب أخرى غيره لمدة عام كامل، كان ذلك قبل خوض التجربة الجامعية بثلاثة أعوام.
عندما سمح لي والدي باستخدام جهاز الحاسوب لأول مرة دون مراقبة، كتبتُ في محرك البحث اسم الكاتب، أردتُ معرفة شكل الشخص الذي أحبه، كنتُ قد خمنت حينها أنه شاب فلسطيني، لأنه كان يستخدم القضية والنسوة بنفس الدرجة التي يستهلك بها باقي الشعراء الفلسطينيين الرمز في قصائدهم. خاب ظني عندما لم أجد له صورة منتشرة، وخاب أكثر لأن لا أحد كتب عنه سيرة ذاتية جديرة بالقراءة.
لم أعرف أكثر من اسمه الكامل وجنسيته وعمره، كيف باستطاعة عالم شديد الاتساع غض النظر عن هذا الرجل الأسطورة، في الحين الذي يوجد فيه آلاف الشعراء العاديين في أكبر موسوعة للشعر العربي؟، اكتفيتُ بصورته في خيالي، رجل في نهايات الشباب، وسيم وحنطي البشرة.. ولم أغير هذه الصفات حتى عندما عرفتُ بأنه سوداني الجنسية.
لا أذكر شكل أمينة المدرسة، لكن أذكرني عندما وقفتُ في نهاية العام أتوسلها أن أمتلك الكتاب، أستعيره لمدة عام آخر، أو أشتريه، أي شيء بدلاً من بقائه على الرفوف المهجورة، فكرة نهاية مطافه وحيداً كانت تخنقني. تعنتت باستمرار حتى راودتني الفكرة: سأسرقه.
مرت أربعة أعوام وأنا أستذكر شِعره كلما اشتقتُ إليه، خلال هذه الأعوام تعرفتُ على شعراء جديرين بمحبةٍ تفوق محبتي له، لكنه كان حبي الأول للقصيدة دون اقتنائها ،علمني الشغف الذي يدفعنا لقول ما حفظناه جهراً وسراً لأنه يشبهنا، وأثبت لي أن المرأة لا يجب أن تكون مريم لتقدس، يكفي أن تكون مادة جيدة للرثاء بعد الموت.. لطالما أحب رثاء الصبايا الجميلات.
ذات مساء، كنتُ أقلب رسائل بريدي الجامعي، وردتني دعوة لندوة إعلامية كالعادة، أهملتها، لكنني عدتُ إليها لقراءة أسماء الضيوف، الرجل الذي كان في جعبتي مكتوبٌ اسمه بين المحاضرين، لفظت اسمه مراراً وتكراراً للتأكد، إنه هو، يلوح لي باسمه الثلاثي أن هيا تعالي، حان وقت اضمحلال المسافة المحيرة بين الكاتب والقارىء، أربعة أيام تفصلني عن رؤيته في مكتبة الجامعة ،مجرد أيام..
ارتديتُ أفضل ما لدي لأشبه الجميلات في قصائده، تعمدتُ حمل كتاب شعرٍ معي لأبدو له مثقفة بطريقة ساذجة وفاضحة، تجاهلتُ جميع محاضراتي الدراسية، جلستُ في المكتبة أنتظره، كانت أطول خمس ساعات في حياتي، كتبتُ له رسالة أتحدث فيها عن كتابه يومها، طويتها ووضعتها بين دفتي أحد دفاتري، قبل موعد الندوة بخمس دقائق، مر رجل متوسط القامة، أشيب الشعر، كرشه يتدلى من أمامه بطريقة غير مبالية، والأهم من كل ذلك، أحد أزرار قميصه الأزرق لم يكن مقفلاً من فرط سمنته.
مشيتُ إليه بتردد، كان يبحث عن القاعة بعينين فضوليتين، سألته : هل أنتَ..
لم يدعني أكمل، أجاب عني بثقة جارحة: نعم أنا عبد السلام..
– أنتَ تكتب الشعر صح؟ لطالما أحببت كتابك..
أيضاً لم يدعني أكمل، أجاب عني باسم كتابه بالطريقة ذاتها، ثم سألني عن مكان القاعة.. أشرتُ إليها وأدرت ظهري خارجةً من المكتبة، صُعقت، إنه الكاتب الذي أحببت، بكورة الشعر في روحي، وحلمي الذي لم أتنصل منه رغم زحام أحلام أكثر جدارة. إلهي، ما أكثر الذين أحببناهم من كلمة ومقتناهم من تصرف، ما أندر الذين تُطابق شخوصهم كتاباتهم، ما أجهل الذين يحبون الآخرين مما يكتبون فقط !
أدفع الباب الخارجي فيندفع مطلع قصيدته مدوياً : " مذ كنتُ طفلاً ألبس السروال مقلوباً وألهو في السرير.. قالوا لنا وطنٌ كبير "… أخرجتُ الرسالة ومزقتها، لا شيء أكبر مما حصل.
كتابه اليوم في حوزتي، إهداؤه وتوقيعه، لا لم أسرقه من الأمينة، إنما حصلت عليه في صدفة لقاء أخرى أخف وطأة من تلك التي كتبتها، لكنني لا أعيره النظر ولو على سبيل استرجاع الذكرى، إنها المحبة في أسمى تجلياتها عندما تؤول إلى خيبة ظن.. وعبء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.